راجح عبدالعزيز الحارثي

دينامية الإعلام السعودي – المخرجات والدور الغائب (2)

السبت - 21 مايو 2022

Sat - 21 May 2022

عندما شرعت في التجهيز لفتح ملف الإعلام السعودي، وبدأت في كتابة سلسلة دينامية الإعلام السعودي - التحديات والفرص والمخاطر، كنت أعلم مسبقا أنه سيكون ملفا شائكا، وأن الكثيرين ممن قد يتحمسون له، سينشغلون بالنظر إلى الثمار، وأيضا أولئك الذين قد يكون لهم وجهات نظر مغايرة، قد تجذبهم تفرعات الأغصان، إلا أنني أؤمن أن إعلامنا اليوم يتطلب أن نصلح الجذور، لأن الخلل متجذر في العمق، فإعلام الأمس بكل واقعه وهياكله ربما يكون قد نجح بعض الشيء في الحفاظ على أدواره التقليدية في واقع الماضي، ذلك «الماضي» الذي لم يعد له حضورا «اليوم» في العالم الرقمي، وهو «عالم» ذو خصائص تقنية وأيضا معرفية تتميز بالتحديث المتواصل في إحداث تطورات متسارعة ومستمرة.. فيما أننا «اليوم» نفتقد تواجد الإعلام بشدة، وندفع أثمانا باهظة لذلك الغياب والفقد.. ونعزو ذلك لحقيقة طبيعة دور الإعلام في الدولة والمجتمع، الدور المتمثل في الدور القيادي على المستوى الاستراتيجي، والحوكمة والتشريع والتقنين، والتمكين.

تقليديا، الإعلام هو صانع الرأي ومنبر صياغته، والأمين على ثقافة المجتمع، ومرآة خطاب الدولة.. وكان ينحصر دوره في ثلاثة قطاعات، الصحافة والنشر، الإذاعة والتلفزيون، والإعلام الخارجي.. لكن اليوم ليس كالأمس. «اليوم» هو الواقع الذي نصبو إليه كدولة وكمجتمع من خلال رؤية المملكة 2030.. حيث إن الإعلام قطاع كبير جدا ومتفرع.. قطاع يعتبر هو الشريان الرئيس وهو أيضا الغلاف الذي يجمع وجودنا، وهو أيضا بكبر الرؤية نفسها بكل ما تحويه من تفاصيل وأهداف، واستثمارات وعوائد مرجوة، وطاقات وآمال وطموحات، وأصول وأرباح، ومقدرات وتحديات ومخاطر وقوى ناعمة متعددة.

وفيما كنت أهم بكتابة السطور الأولى لهذا المقال، كنت أفكر في تعريف مبسط لمفهوم «الإعلام الجديد»، وما يعنيه لنا على أرض الواقع. وأعتقد أني لست بحاجة لتبسيط المفهوم، بل التركيز على واقع إعلامنا الجديد والذي أعتبره حالة من «التغلغل الرقمي المظلم» الذي اختطف فيه المحتوى السعودي، وغابت فيه فاعلية الإعلام كنتيجة حتمية لتخلفه عن الركب.

اليوم لو أردنا التمعن في دور الإعلام، نجد أن الذي يحدد دوره هو مخرجات إعلامنا الحالي «الإعلام الغائب». فقبل عشر سنوات تقريبا أو أكثر قليلا، كانت مؤسسات الصحافة والنشر تنعم بنمو متواصل ومزدهر، وتدر مداخيل جيدة معتمدة على مصدرين رئيسين، أولهما مبيعات الأعداد وما يشملها من اشتراكات، وثانيهما الإعلانات في تلك الأعداد. في تلك الفترة، قُدر حجم السوق في قطاع الصحافة والنشر بحوالي 500 مليون دولار.

وفي وقتنا الراهن، يقدر حجم الانكماش في السوق بأنه قد تجاوز ما يعادل الـ 80% تقريبا من حجمه قبل عشر سنوات.

هذا الانكماش يشمل حجم المؤسسات، والعاملين في القطاع، والأرباح وحتى الأصول المستثمرة.

لدينا خسائر عظيمة وجمة في المؤسسات الصحفية، خسائر أفشلت مرحلة التحول من المدرسة الورقية إلى المرحلة الرقمية.

وهذا الفشل هو نتيجة مباشرة لغياب الدور الاستراتيجي في وزارة الإعلام عن المشهد، وعن مسؤولياتها تجاه القطاع ومؤسساته الذي يمثل القلب النابض لـ «الإعلام السعودي» بكل ما تعنيه الكلمة، فقطاع الصحافة والنشر هو القاعدة العريضة التي ترتكز عليه بقية قطاعات الإعلام الأخرى، وهو أيضا القاعدة العريضة للنشر المعرفي والثقافي والتخصصي.. ناهيك في الحديث عن أنه صوت الدولة ورسائلها، وهو وسيلة الحوار الاجتماعي الذي يعكس واقع الحياة بكل أوجهها.. قطاع الصحافة والنشر في وقتنا الراهن، لا يزال بعيدا كل البعد عن التحول الرقمي الفاعل، بالرغم من أن جميع الصحف تعتمد اليوم على النشر عبر المواقع الالكترونية، إلا أنها جميعا تفتقر إلى المعرفة الرقمية واستراتيجياتها، حيث إن صناعة المحتوى الرقمي تختلف اختلافا جذريا في طرق بنائه وصياغته عن الطرق التقليدية، فتلك الطرق في وقتنا الراهن تتطور بشكل سريع من خلال منظومات رقمية وخوارزمية في طرق صناعة وصياغة الخبر عبر تقنيات الذكاء الصناعي، فيما أننا في قطاع الصحافة والنشر نستعيض عن ذلك اضطرارا عبر الاستعانة بمصادر خارجية لإدارة عمليات النشر والاستضافة الالكترونية لخفض التكاليف، وبطرق شبه تقليدية، وهو ما يسبب هدرا لموارد مؤسسات الصحافة والنشر المحدودة والضعيفة، وأيضا يُغيب فرص قيام القطاع الداعم لبناء تقنيات الأرشفة والاستضافة والصحافة الالكترونية على أسس متينة ومستقرة، وأيضا يحرم الاقتصاد المحلى من خلق الفرص وإيجاد الوظائف، والإسهام في الاقتصاد المحلي وموارد التكامل.

وإذا نظرنا إلى السوق الإعلاني السعودي بجميع قطاعاته المختلفة، سنجد صورة مقاربة ومماثلة، وقد تكون مشابهة من حيث النمط والنتائج، حيث إن قيمة سوق الإعلان السعودي كانت تقدر بأكثر من 1.5 مليار دولار قبل عشر سنوات تقريبا، وفي وقتنا الراهن بلغ حجم الانخفاض والهبوط ما يقدر بنسبة الـ 55% إلى 60% تقريبا.

والسبب ينحصر في نقطتين، أولهما، تغير في السلوك والنمط لمتلقي المحتوى وتقنياته الرقمية، وثانيهما، ينحصر في غياب وحدة قياس لـ «المعلنين» التي من خلالها يمكن التوصل لـ «المردود الإعلاني» على منتجاتهم.

كما أن التحول في القطاعات الإعلانية التقليدية إلى رقمية، والنشوء المصاحب المتمثل في مواقع التواصل الاجتماعي قدم حلولا بديلة لتقديم المحتوى الإعلامي الترفيهي، مما أعطى خيارات جديدة للمتلقي من مستخدمي تلك المنظومات الاجتماعية الرقمية، وأيضاً فرض تحديات معرفية تخصصية على مؤسسات الإعلام التقليدية بكل أنواعها، مما أثر على نمو بعض القطاعات كالتلفزيون والراديو والإعلان الخارجي.

وفي الجانب الآخر، وبالنظر إلى المحتوى الرقمي في وسائل التواصل الاجتماعي، لدينا مشكلة عميقة تتمثل في ظاهرة متنامية وهي ظاهرة اختطاف المحتوى الإعلاني السعودي لصالح فئة من «متسلقي الإعلام الجديد (المؤثرين في تطبيقات التواصل الاجتماعي Social Media Influencers)». وهذه الفئة تفتقر إلى أدنى المؤهلات العلمية المطلوبة، والخبرات المنهجية لمزاولة مهن الإعلام والإعلان المختلفة والمتنوعة، وهذا يتعارض مع الأنظمة والقوانين التي تحكم الممارسات المهنية والتجارية.

وهذه الظاهرة لها عواقب وتبعات غير محمودة على عدة مستويات مختلفة، منها المستوى الاقتصادي، حيث أن مداخيل الإعلانات تحولت من النموذج المؤسسي والمتمثل في كيان تجاري مرخص ومؤهل ويسهم في نمو الاقتصاد المحلي، إلى كيانات فردية لا تسهم بأي حال من الأحوال في الدائرة الاقتصادية المحلية، أو حتى الوطنية، بل إن بعضهم يتم دعمهم من قبل تكتلات خارجية، بعضها لديها أطماع مالية، وبعضها لديهم أجندات ربما تكون سياسية.

وتتواصل مشكلة «متسلقي الإعلام الجديد» في المنحى الاجتماعي، حيث إنها ترسل رسائل اجتماعية إلى الشباب تتعارض مع القناعات التربوية الصحيحة والسليمة، القائمة على التحصيل العلمي والاجتهاد والمثابرة من خلال منظومات التعليم في المجتمعات المدنية.

أصبح الثراء السريع هاجسا للكثيرين من الشباب والشابات وخلق معضلة للأسر في بديهيات تحولت لتصبح أمورا جدلية.

وعلى سبيل المثال، نجد أن هناك شبابا صغار السن، تأثروا بهذه الظاهرة السلبية، وأصبحوا يقلدونهم على حساب حياتهم الخاصة، وعلى حساب خصوصيات أسرهم ومجتمعهم، بل قد تجد اليوم طبيبا متخرجا وقد انشغل بالركض خلف الشهرة، عوضا عن مواصلة طريقه في مجاله المهني، وأيضا تجد هناك طلابا في التعليم الجامعي وقد بدأوا يعيدون التساؤل حول أولوياتهم في الحياة، والخيارات التي قاموا بها، وبعضهم يسعي جاهدا لخلق تجربة في عالم «متسلقي الإعلام الجديد» حالما أن يصبح أحد «المؤثرين» الذين يجنون الملايين الموعودة، عوضا عن أن يكون أحد الموهوبين الذين أولتهم أسرهم والدولة العناية لكي يصبحوا ناجحين في إحدى المجالات العلمية المختلفة.

وأود أن أختم هذه الجزئية بالتنويه حول المفاهيم الأخلاقية للمحتوى الذي يبثه بعض المؤثرين الذي يسهم في تحطيم الصورة الذهنية الوطنية، عبر إنتاجهم لمحتوى مسيء، يفتقر لـ «الضوابط المهنية والقانونية والأخلاقية»، ويزج بالرأي العام في أغلب الأحيان إلى مساحات الجدل الغاضب واللغط، وأيضا يحط من شأن المواطن وقيمه وأعرافه، ويخدش حياءه، بل وفي أحيان أخرى يسيء إلى الوطن ككل.. والشواهد كثيرة، ولكن المهم في هذا الأمر هو غياب الرقيب وعدم وجود ضوابط يتم فرضها لحماية المتلقي والسوق والمجتمع ككل.

وفيما نحن نتحدث عن المنظومة الأخلاقية في المجتمع، نجد أن المحتوى العالمي «المنصات الرقمية» يكاد يقضي على المحتوى المحلي.. يقوم بالتسلل إلى المجتمع ويؤثر في محتواه، وأيضا في عقر دورنا بين أفراد أسرنا يسرب أفكارا دخيلة علينا، وأنماط معيشة تخالف الفطرة والأعراف والقوانين، بعض المحتوى يؤدلج لنشر مفاهيم الشذوذ الجنسي والرذيلة، ويهدم قيم ومعايير الحياء العام دون رادع، كما هو الحاصل الآن في بعض محتوى منصة نتفليكس الرقمية.

هذه المعاناة الحالية لا تتوقف عند هذا الحد، بل إن الخطر القادم متمثلا في مواصلة التسلل الرقمي إلى المجتمع عبر المنصات الرقمية التي لم تصل إلينا بعد، مثل ديزني وأمازون وغيرها.

وفي مجال صناعة المحتوى الإعلامي المحلي الترفيهي، لدينا ندرة تامة لـ «المحتوى» في قطاع الإنتاج، وتلك الندرة تترافق مع غياب لـ «التشريعات» المواكبة للقطاع، والتي يجب أن تحدد معالم بيئة العمل وأخلاقياته، وأيضا أن توفر أرضية تنظيمية لنشوئه قانونيا، وأن تحفز وتحث على المهنية والنمو، مع الأسف الندرة أدت الآن إلى رفع أسعار الإنتاج بشكل هائل، بينما الطلب على المحتوى المحلي عال جدا، فالسوق السعودية متعطشة وفي بداياتها، وعليه فإن هذا المشهد الحالي مع غياب التشريعات التي تصنع القطاع وتقننه، سيؤدى إلى قتل القطاع جراء التضخم.. مما قد يؤثر على جهود وفرص صناعة المحتوي المحلي كقطاع داعم تنموي، وقد يحد من فرص نمو السوق بالطرق الصحيحة في المستقبل.

الغياب عن المشهد يؤثر على الصورة الذهنية بشكل كبير، لم أتفاجأ الأسبوع الماضي عندما اضطرت وكالة الأنباء السعودية إلى نشر خبر نفي وتصحيح عن اللغط الذي أحدثته تعليقات وردت على لسان رئيس قطاع السياحة في نيوم (أندرو ماكفوي)، بل إن ذلك أصبح أمرا معتادا بين الفينة والأخرى، فالغياب المتواصل يجعل التنسيق الإعلامي أمر صعبا! ناهيك الحديث عن الهجمات الإعلامية المتواصلة ضد المملكة على مستوى الإعلام العالمي.. والتي تتجدد في كل ملف، حتى وإن كانت المملكة من أكبر المسهمين الفاعلين في الاستقرار العالمي!

اليوم وفي ظل هذا الغياب، أنا لا أطالب وزارة الإعلام لدينا أن تقوم بملء الفراغ، ولا أن تلعب دور قطاعات الإعلام ومؤسساته، بل على الأقل القيام بدورها الاستراتيجي في تحفيز بناء البنى التحتية، ونقل الخبرات، وإعادة الهيكلة، وتكوين المجتمعات التخصصية، ومشاركة المعلومات ونشر الشفافية، وأيضا إرساء معايير حرية الرأي المسؤولة، والأخذ على أيدي المسيئين والسفهاء، ونشر ثقافة الرأي المسؤول.

كان هذا المقال من السلسلة ضرورة حتى نقف على مشهد الإعلام الحالي، ولكي نعبد الطريق إلى بقية مقالات السلسلة والتي سأحرص من خلالها أن أقدم بعض المحتوى الذي يتركز فيه الحديث عن القطاعات المختلفة في الإعلام السعودي، وعن الدور الاستراتيجي المأمول، وكلنا ثقة أن نرى غدا أجمل في القريب العاجل.. فالمملكة العربية السعودية تعتبر أكبر سوق واقتصاد في الشرق الأوسط، ورؤية المملكة 2030 تعتبر أهم حدث سيؤثر في العالم أجمع.