شاهر النهاري

الرحمة تجوز

الاثنين - 16 مايو 2022

Mon - 16 May 2022

كانت أواخر ليالي رمضان تنقضي، وكانت رسائل الوعظ والدعاء تتعاظم على شاشة هاتفه، لدرجة أنه لم يعد يفتح أكثرها، بمعرفة مسبقة بما هو كائن فيها.

وحدها تلك الرسالة، الآتية من زميل لم يسمع أخباره منذ فترات استوقفته، فهي تحتوي قائمة زملاء الوظيفة الراحلين عن الدنيا على مدى سنوات عملهم فيها، وطلب الترحم عليهم.

اصطدمت عيناه بالأسماء دهشة وحسرة، وهو يغالب تفتح صور الماضي أمام غمامة ناظريه، فكل اسم مر في القائمة، كان له كيان وحياة، ومواقف، وذكريات.

لقد طواه الحزن على الراحلين بألقابهم، التي تحدد مناصبهم في وظائفهم الأخيرة.

كلهم ماتوا في منعرجات وظروف مختلفة، شباب لم يكملوا ريعان طموحاتهم، وكبار تمادت وزحفت بهم السنون، حتى زاروا المقابر.

تفجرت دهشة حزنه عندما قرأ أسماء بعض من ماتوا دون أن يصله خبرهم، أو أنه على التباعد قد نسي تلقيه التعزية فيهم!

لماذا اختار صاحب الرسالة تقليب المواجع على قلبه، أرغبة في تجديد ذكراهم والدعاء لهم، أم لتذكير الأحياء، بأنهم على الدرب سائرين؟

أصدقاء عمر، وزملاء مسارات، وبعض من كانت علاقاته معهم مرسومة بخطوط الفحم، لا تتضح ملامح نقائها، وقلة لم يكن على وفاق معهم، كما تقتضيه المنافسات البشرية المتمردة العنيفة، ورغم ذلك ظل يدعو للجميع من قلبه، محاولا نسيان المواقف السيئة، لمن كان منهم شرسا، أو عنصريا، أو متسلقا، أو من كان منهم يحتل منصبا لم يكن يستحقه، ولم لا، فكلهم تواروا تحت التراب، والدعوة الخالصة توازي بين الجميع، ولا تتوقف لتعزل من لم يكن بطيبة الآخرين، ولا بصفاء أنفسهم، ولا بقربهم منه.

ما هذا اليوم العجيب، الذي أدمع عيناه حزنا، وهم يصطفون بمخيلته، وكأنهم يطلبون منه الصفح، وتذكرهم، ولو بدعوة عفوية جماعية.

محاسن الموتى لا بد من تذكرها، وأن يكال لهم من الدعوات بالجنات العلى والسعادة الأبدية، ومهما اختلف مع قلة منهم، كانوا لا يراعون العشرة والزمالة، وكانوا وحوشا في حوش رزقهم، فكذبوا، وخدعوا، احتالوا، وظلموا، لأنهم في مجد سلطتهم كانوا ينظرون للغد من نوافذ الخلود، ولم يبلغ يقينهم أن الموت نهاية للكلمات، وانعدام لفرص الترفع والأوبة، والعودة عن الأخطاء، وطلب الصفح.

لقد دارت الكرة الأرضية أمامه واهتزت، وتذكر المليارات ممن رحلوا عنها من الشعوب، بالحروب، والأمراض، والحوادث، والاندثار الطبيعي على مدى العصور، فأصبحوا نسيا منسيا، وهؤلاء الزملاء ليسوا استثناء عما يحدث لكل مولود على وجه الأرض، يكون له معاش وعمر محدود، لا يلبث أن يرحل بعده، وينطوي بين التراب، وهو دون شك يندم على كل تقصير، وكل جرح لإنسان، وكل كذبة، وكل تحايل لنيل الرزق، ولكن الندم بعد الرحيل لا يكون، فالفعلة السيئة قد حدثت، والتجبر والتعالي سبق، وحتى كلمة التأسف أصبحت مستحيلة الخروج من اللحد، لتبلغ أذن وقلب من أساء إليه، ومن

قصر معه، ومن منع عنه نيل استحقاقه.

من يزرع الحب يظل في أعين وقلوب ودعوات من يحبهم حتى ولو رحل، ومن يخطئ الطريق، ويغتر بأعنة الحظ، ويصاحب الشيطان، تظل حتى الدعوة بالرحمة له من قلب مجروح، مشوشة، نادرة الحدوث، ومهما بلغت طيبة قلب الصافح الرحيم، المتذكر لمحاسن الموتى.

shaheralnahari@