عصام الزامل

كيف تبني العقول اقتصادات الأمم

مكاشفات
مكاشفات

الاثنين - 15 أغسطس 2016

Mon - 15 Aug 2016

في عام 1978 تأسست شركة ديش لصناعة الملابس في بنجلاديش، وعقدت عند تأسيسها اتفاقية شراكة مع دايوو الكورية، وإثر هذه الاتفاقية تم إرسال 126 بنجلاديشيا إلى كوريا الجنوبية لمدة 6 أشهر للتدريب على تشغيل المصنع.



بعد عودة المتدربين بسنتين، أي عام 1980، بدأ الإنتاج في مصنع ديش، حيث كانت صادرات بنجلاديش من المنسوجات والملابس لا تتجاوز 6 ملايين دولار. اليوم تتجاوز صادرات بنجلاديش من المنسوجات والملابس 25 مليار دولار سنويا وهي تمثل أكثر من 80% من مجموع صادراتها. وبعد أن كانت بنجلاديش تحتل المرتبة الـ 74 في تصدير المنسوجات والملابس، تحتل بنجلاديش اليوم المرتبة الرابعة، وتحتل المرتبة الثانية كأكبر مصدر لملابس الماركات العالمية.



في دراسة قام بها باحثان من جامعة كارنيجي ميلون الأمريكية عن أثر بذر المعرفة الضمنية (tacit knowledge) في التنمية الصناعية، يشير الباحثان إلى أن الرحلة التدريبية التي قام بها 126 موظفا من شركة ديش لكوريا الجنوبية كانت هي الشرارة التي نهضت بصناعة النسيج بكاملها في بنجلاديش. فكيف حدث ذلك؟



في هذه الدراسة تتبع الباحثان الموظفين الذين أسسوا شركة ديش وتدربوا في كوريا، ليتبين أنه بعد أربع سنوات من بدء الإنتاج في مصنع ديش، انتقل أكثر من 75% من موظفي المصنع الـ 126 لتأسيس شركات شبيهة في قطاع الملابس والمنسوجات. ونقلوا معهم خبرتهم التي اكتسبوها في شركتهم الأولى.



وبحسب الباحثين، شكل الـ 126 متدربا البذرة الرئيسية في تنمية كل قطاع المنسوجات والملابس في بنجلاديش. فبعد أن كان عدد مصانع الملابس يعد على الأصابع عند تأسيس مصنع ديش في 1980، وصل عددها في 1984 إلى أكثر من 294. أما اليوم فيتجاوز عدد مصانع المنسوجات والملابس في بنجلاديش 4000 مصنع. وكان هذا النمو في قطاع المنسوجات سببا رئيسيا في رفع معدل دخل الفرد في بنجلاديش أكثر من 300% خلال 30 سنة.



يركز الباحثان على أن نوع المعرفة المكتسبة للمتدربين من الصعب نقلها بشكل نظري سواء بالكتب أو المحاضرات أو الغرف الدراسية. ولكنها تكتسب بالممارسة، ولذلك كانت المنشآت الجديدة التي تنوي دخول قطاع النسيج والملبوسات تستعين بموظفي شركة ديش لأنهم يمتلكون تلك المعرفة المطلوبة لتشغيل خطوط الإنتاج بالمصنع، وهم القادرون على نقل المعرفة المطلوبة لموظفي المصنع الجديد، ومع اكتساب موظفي المصنع الجديد لتلك المعرفة، يستطيع الموظفون الجدد نقل تلك المعرفة إلى مؤسسات جديدة، في دائرة مستمرة من نشر المعرفة لا تتوقف إلا بعد أن يصل حجم القطاع إلى أقصى مداه الممكن اقتصاديا.



هذا النوع من المعرفة الذي مكن موظفي ديش من تشغيل المصنع ثم نقله لمصانع أخرى وموظفين جدد، يسمى معرفة - الكيف (know-how) وهي المهارة أو القدرة على فعل شيء، وهي من أنواع المعرفة الضمنية التي لا يمكن اكتسابها إلا بالممارسة، كمهارة قيادة الدراجة أو السباحة.



بنجلاديش كانت وما زالت من أسوأ دول العالم في البيروقراطية والفساد وضعف البنية التحتية، وأضعفها تعليما، وتفتقد أبسط عناصر التنمية الصناعية كمؤسسات التمويل. كل تلك العوامل لم تكن عائقا أمام نمو قطاع المنسوجات والملابس، ولم تكن عائقا في أن يكتسب العاملون في هذا القطاع المعرفة المطلوبة ليكونوا منتجين. فهذه المعرفة لا يتم تدريسها في المدارس أو الجامعات، ولكنها تكتسب على الأرض من خلال الممارسة، بل إن غالبية من ذهبوا من شركة ديش للتدريب في كوريا، لم يحملوا إلا الشهادة الثانوية.



معرفة - الكيف (know-how) هي التي تبني اقتصادات الدول، وهي التي ترفع إنتاجيتها، وكلما زاد هذا النوع من المعرفة زاد تنوعه، وكلما زادت قدرة الدولة على أن تنتج أشياء أكثر يريدها العالم زاد ثراء تلك الدولة. المعرفة التي نكتسبها من خلال التعليم العام أو الجامعي، رغم أهميتها، إلا أنها لا تمثل إلا جزءا يسيرا من المعرفة المطلوبة لنكون مجتمعا منتجا، وهذه المعرفة المطلوبة لرفع الإنتاجية يتم اكتسابها بشكل متدرج ويتم نشرها بين العقول بالممارسة. في المقالات القادمة سأسلط الضوء على حجم المعرفة - معرفة الكيف بالتحديد - التي خسرناها في اقتصادنا بسبب بعض السياسيات الاقتصادية.