زيد الفضيل

التاريخ قوة دافعة للأمم

السبت - 07 مايو 2022

Sat - 07 May 2022

في عددها الحالي لشهر مايو، خصصت مجلة «آراء حول الخليج» وهي مجلة رصينة صادرة عن «مركز الخليج للأبحاث»، وهو أحد المراكز العربية المهمة في مجال الدراسات والأبحاث السياسية والاقتصادية وصناعة المحتوى الثقافي، أقول خصصت حديثها المكتوب حول موضوع أخاله مهما جدا، بل وتهتم به مراكز صناعة القرار في كل الدول المتقدمة، وأقصد به موضوع التاريخ ومادته، ويأتي اهتمامها متزامنا مع اجتماع مؤرخي وآثاري دول مجلس التعاون الخليجي السنوي بمملكة البحرين خلال اليومين القادمين، وذلك تحت مظلة جمعية تاريخ وآثار دول مجلس التعاون الخليجي التي مضى على تأسيسها نحو ربع قرن.

أعود إلى موضوع التاريخ لأشير إلى أنه كان ولا يزال القوة الدافعة للأمم الحية التي تريد أن تستفيد من ماضيها لتقويم حاضرها وبناء مستقبلها، والتي تدرك بأن قيمة وجودها كامن في معرفة كنه الآخر معرفة دقيقة، ولا يتأتى ذلك إلا باستيعاب دلالات تاريخه الاجتماعي والثقافي وصولا إلى السياسي. من أجل ذلك نجد أن مادة التاريخ قد حظيت باهتمام مختلف الجامعات الغربية والأمريكية تحديدا، ولم يقتصر الأمر على أروقة الحرم الجامعي ومقاعد الدراسة وحسب، كما لم ينحصر الاهتمام بخريجي الدراسات الإنسانية والتاريخ بخاصة على المؤسسات الرسمية التي أعطتهم الأولية في مختلف الدورات

التطويرية للالتحاق بالوظائف الدبلوماسية وغيرها، بل تعدى ذلك إلى أروقة المؤسسات والشركات الخاصة، ولا سيما التي لها تعامل دولي في عدد من دول الشرق الأوسط وشرق آسيا وحتى أفريقيا، حيث اهتمت مجالس إداراتها بمعرفة خصائص الشعوب وتفهم عاداتهم وتقاليدهم وأنظمة الحكم لديهم، وكل ذلك وغيره يحتاج إلى مؤرخ متخصص ليعرف كبار الموظفين وغيرهم بما يجب أن يقوموا به منذ اللحظة الأولى وحتى الانتهاء، وهو ما كسر كثيرا من الحواجز مع الآخر أيا كان موقعه ومنصبه ومكانته.

إذن هو التاريخ الحضاري الذي علينا الاهتمام به بالدرجة الرئيسة، وهو من سيؤكد اعتزازنا بأنفسنا، ويجعلنا مرتبطين بذواتنا بشكل وثيق، لكننا للأسف قد أهملناه حال قراءتنا للتاريخ وتدبرنا لحيثياته، ولذلك صار تاريخنا مادة ثقيلة لا تمت إلينا بصلة. ذلك أننا ولأمر لا أفهمه لم نهتم بمختلف المنظومات الحضارية حال توثيقنا لتاريخنا السياسي، وانصب تركيزنا على الجوانب العسكرية والسياسية، وانعكس على مختلف مسلسلاتنا التاريخية بعدئذ ومنها مسلسل «فتح الأندلس» المعروض حاليا.

في هذا الإطار أشير إلى اهتمام المؤرخ برصد أعمال عقبة بن نافع العسكرية حال فتح أفريقيا والقادة من بعده وصولا إلى موسى بن نصير، ولا نجد ذكرا لجهود العلماء الربانيين كعبدالملك الصنعاني وغيره ممن خففوا بسلوكهم وأخلاقهم ولين قولهم وأدب دعوتهم ما خالط بعض تلك الأعمال العسكرية من وحشية وقسوة مفرطة لا يقر بها ديننا الحنيف؛ كذلك الحال حين الحديث عن توالي الدول الحاكمة ابتداء بالدولة الأموية وانتهاء بالدولة العثمانية، إذ نجد أن التركيز قد انصب على سير حكامها وليس سير مجتمعاتها، تلك التي اكتنزت في ثناياها كثيرا من المعارف والعلوم، وبرز فيها كثير من العلماء

الأفذاذ، الذين كان لهم الدور الكبير في تحقيق نهضتنا العربية التي نحتفي بها تاريخيا، والتي تم اقتباس معالمها من قبل الأوربيين عبر منفذي الأندلس وصقلية ليؤسسوا بعد ذلك ما عرف بعصر النهضة ثم عصر الأنوار.

إن تاريخنا الثقافي حافل بكثير من المنجزات التي لم يكشف عنها بشكل دقيق، ولم يتطرق إلى حيثياتها بمنهج تحليلي فلسفي وفق إحدى المدارس الفلسفية لقراءة التاريخ، وأغلب ما ينشر من دراسات وأبحاث لا يخرج عن المنهج الوصفي، وكان من جراء ذلك أن فقد التاريخ كموضوع فلسفي قوته الدافعة، ليصبح حكاية سردية تروى، لأحداث عسكرية وسياسية ماضية، يتم تداولها للتسلية وقضاء الوقت؛ وللأسف فذلك ما كرسه عدد من أقسام التاريخ العلمية في جامعاتنا الوطنية التي أغفلت ثقافة التدبر والتحليل وفق رؤية المدارس الفلسفية حال دراسة الواقعة التاريخية، كما أهملت الاستعانة بمختلف العلوم

الإنسانية كعلم النفس وعلم الاجتماع اللذين يعدان من أهم الأدوات البحثية لأي مؤرخ يهتم بتجويد بحثه، وللأسف فقد أدى هذا الضمور في تلك الأقسام العلمية إلى تدهور السياق العلمي لعدد من الأبحاث المقدمة في مجمل المؤتمرات واللقاءات العلمية المتخصصة، وهو أمر يستوجب من العارفين الغيورين التدخل لتصحيح المسار، وإعادة موضوع التاريخ ومادته إلى مساره العلمي الصحيح، ليكون قوة دافعة للأمم، وليس مثبطا للهمم.

zash113@