المرأة النموذج في العاصوف
الأربعاء - 27 أبريل 2022
Wed - 27 Apr 2022
جسد مسلسل العاصوف في أجزائه الثلاثة واقعا حياتيا عاشه إنسان المملكة العربية السعودية خلال العقود السالفة من القرن العشرين الميلادي، وحتما فالشكر يعود ابتداء للراحل المبدع الكاتب عبد الرحمن الوابلي (يرحمه الله) الذي نسج خيوطه بدقة متناهية، ولجميع الفنانين المتميزين المشاركين في كل أجزائه بقيادة المايسترو ناصر القصبي وإخراج المثنى صبح، على إني أحب أن أخص منهم الفنانة ليلى سلمان (ماما هيلة) والفنانة ريم عبدالله التي قامت بدور (جهير) لقيمة الدور المحوري اللتين قامتا به، حيث عكس دورهما شخصية نسوية مهمة صارت غائبة عن مشهدنا الأسري للأسف الشديد، جراء
حالة التفتت والتشتت الذي باتت مظاهره واضحة على سطح المشهد.
في العاصوف أبدعت الأم الحنون (هيلة) ذو الشخصية المركزية بلطف، والتي نذرت نفسها لتكون عمود البيت التي يركن إليها أولادها وأولادهم، فكانت الأم الحنون بعاطفتها الجياشة، والمرأة الحكيمة بعقلها الناضج، والسيدة المدبرة بقرارها الصارم، وأجزم أن ذلك كان حال كثير من أمهاتنا من ذلك الجيل، أولئك النسوة الكبار اللاتي يشتد بهن حال أزواجهن، فكن عصابة الرأس حين تدلهم الخطوب، والصدر الحنون في الليلة الموحشة، فتسكن إلى جوارها وفي أحضانها الأنفس التائهة، حتى إذا استكانت واستعادت قوتها عملت تلك الأم الرؤوم على دفعها من جديد لمواجهة صلف الحياة ومشاقها. إنه دور
بطولي قلما أدركنا قيمته في حينه، لكننا اليوم صرنا فاقدين لحضوره مع جيل أمهات اليوم، ولا أعمم جازما ففي كثير من الأمهات خير، ولا تزال المرأة العربية الأصيلة قائمة بدورها الذي يجب، فهنيئا لمن كان حظيظا بوجودها زوجة وأما وجدة.
في العاصوف أيضا أبدعت الزوجة الحكيمة (جهير) تلك التي امتلأت أنوثة ورقة، واكتنز صدرها بعاطفة جياشة لحبيبها الذي ارتبطت به فأحبها وأحبته، فكانت سندا له في كل حالاته، وكانت طيعة لرغباته دون كلل، محتوية بعقل وحكمة وحب لجموحه كرجل. (جهير) التي احتوت البيت برحابة صدر، ولم تغرق في أنانية أنثوية مقيتة قوامها الأنا الفردية التي باتت طاغية في عديد من سلوكيات أخواتها المعاصرات، إذ عاشت في بيت هي سيدته بهدوء عاطفتها ورجاحة عقلها، وفي الوقت ذاته هي فرد من أفراده، ولعمري فتلك معادلة سهلة وصعبة في آن، ولا تقدر عليها سوى الأنثى الذكية والصافية
بنيتها في وقت واحد، وهو النموذج الذي صار مُفتقدا بوجه عام؛ وأيضا لا أعمم جازما ففي كثير من الزوجات خير كما أرجو.
كم بات مجتمعنا مفتقدا إلى هذين النموذجين في ظل حالة التشتت المجتمعي، وانغماس كثير من أفراده في دوامة الفردانية المقيتة، التي أسهمت وسائط التواصل الاجتماعي في تأصيلها بين الناس جملة، وضمن نطاق أسرنا بخاصة، لينعزل كل فرد في مجتمعنا داخل جزيرة مصمتة لا روح فيها ولا مظاهر أنسنة، وما أوحشها من حياة، وليت أولادنا اليوم يدركون دلالة ما نتوارثه من أمثال كقولنا: «الناس بالناس والكل بالله»، و»جنة من غير ناس ما تنداس».
تجدر الإشارة إلى أن المسلسل قد ركز على الصراعات داخل العائلة الواحدة، كما رصد التحولات الاقتصادية والسياسية التي شهدتها المملكة العربية السعودية خلال فترة الستينيات والسبعينيات وصولا إلى نهاية القرن العشرين، وانتهى جزؤه الثاني بحادث اقتحام الحرم المكي في أواخر عام 1979م من قبل الهالك جهيمان وأتباعه، ليبدأ الجزء الثالث برصد صعود المتشددين الإسلاميين من جماعة الإخوان المسلمين والجهاديين، وتسيد ثقافة التحريم والمنع التي تمثلت في كثير من المظاهر الحياتية ومنها ظاهرة السماح للمرأة بقيادة السيارة، تلك التي حشد خطباء الصحوة كل جهدهم لمحاربتها وتحريمها
ومنعها، كما أظهر المسلسل جانبا من حالة التشدد التي سادت جهاز هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في وقت سابق، كما أشار إلى التنظيمات الجهادية وحالة جمع الأموال للحرب في أفغانستان، وحجم التأثير السلبي على المجتمع السعودي في حينه، وأبرز المسلسل تعاطي المجتمع السعودي مع الغزو العراقي للكويت، مبينا حالة اللحمة المجتمعية بين المملكة والكويت، وفوق ذلك فقد رصدت المشاهد تنامي الوضع الاقتصادي الذي شهد صعودا كبيرا وانتشارا للشركات والمصانع وبناء الأراضي، وزيادة الدخول، وغير ذلك من مظاهر النمو والتطور الحياتي.
أخيرا، ليسمح لي الفنان ناصر القصبي ورفاقه الرائعين سيدات وسادة أن أهمس في أذنهم قائلا بحب: إن مجتمعنا يتعرض للهدم في كثير من مناحي منظومته المجتمعية والأسرية، ويتعرض للتغييب وإمعان الفصل بين ماضينا بمنظومة قيمه الأصيلة، وواقعنا المعاصر الذي يتصدر مشهده التافهون للأسف الشديد، وأنتم أيها الفنانون عليكم مسؤولية كبرى في مواجهة هذه المخاطر، فكونوا كما نرجو، وخلدوا أسماءكم في سماء ذاكرتنا بما يليق بكم. وكل عام وأنتم بخير.
zash113@
حالة التفتت والتشتت الذي باتت مظاهره واضحة على سطح المشهد.
في العاصوف أبدعت الأم الحنون (هيلة) ذو الشخصية المركزية بلطف، والتي نذرت نفسها لتكون عمود البيت التي يركن إليها أولادها وأولادهم، فكانت الأم الحنون بعاطفتها الجياشة، والمرأة الحكيمة بعقلها الناضج، والسيدة المدبرة بقرارها الصارم، وأجزم أن ذلك كان حال كثير من أمهاتنا من ذلك الجيل، أولئك النسوة الكبار اللاتي يشتد بهن حال أزواجهن، فكن عصابة الرأس حين تدلهم الخطوب، والصدر الحنون في الليلة الموحشة، فتسكن إلى جوارها وفي أحضانها الأنفس التائهة، حتى إذا استكانت واستعادت قوتها عملت تلك الأم الرؤوم على دفعها من جديد لمواجهة صلف الحياة ومشاقها. إنه دور
بطولي قلما أدركنا قيمته في حينه، لكننا اليوم صرنا فاقدين لحضوره مع جيل أمهات اليوم، ولا أعمم جازما ففي كثير من الأمهات خير، ولا تزال المرأة العربية الأصيلة قائمة بدورها الذي يجب، فهنيئا لمن كان حظيظا بوجودها زوجة وأما وجدة.
في العاصوف أيضا أبدعت الزوجة الحكيمة (جهير) تلك التي امتلأت أنوثة ورقة، واكتنز صدرها بعاطفة جياشة لحبيبها الذي ارتبطت به فأحبها وأحبته، فكانت سندا له في كل حالاته، وكانت طيعة لرغباته دون كلل، محتوية بعقل وحكمة وحب لجموحه كرجل. (جهير) التي احتوت البيت برحابة صدر، ولم تغرق في أنانية أنثوية مقيتة قوامها الأنا الفردية التي باتت طاغية في عديد من سلوكيات أخواتها المعاصرات، إذ عاشت في بيت هي سيدته بهدوء عاطفتها ورجاحة عقلها، وفي الوقت ذاته هي فرد من أفراده، ولعمري فتلك معادلة سهلة وصعبة في آن، ولا تقدر عليها سوى الأنثى الذكية والصافية
بنيتها في وقت واحد، وهو النموذج الذي صار مُفتقدا بوجه عام؛ وأيضا لا أعمم جازما ففي كثير من الزوجات خير كما أرجو.
كم بات مجتمعنا مفتقدا إلى هذين النموذجين في ظل حالة التشتت المجتمعي، وانغماس كثير من أفراده في دوامة الفردانية المقيتة، التي أسهمت وسائط التواصل الاجتماعي في تأصيلها بين الناس جملة، وضمن نطاق أسرنا بخاصة، لينعزل كل فرد في مجتمعنا داخل جزيرة مصمتة لا روح فيها ولا مظاهر أنسنة، وما أوحشها من حياة، وليت أولادنا اليوم يدركون دلالة ما نتوارثه من أمثال كقولنا: «الناس بالناس والكل بالله»، و»جنة من غير ناس ما تنداس».
تجدر الإشارة إلى أن المسلسل قد ركز على الصراعات داخل العائلة الواحدة، كما رصد التحولات الاقتصادية والسياسية التي شهدتها المملكة العربية السعودية خلال فترة الستينيات والسبعينيات وصولا إلى نهاية القرن العشرين، وانتهى جزؤه الثاني بحادث اقتحام الحرم المكي في أواخر عام 1979م من قبل الهالك جهيمان وأتباعه، ليبدأ الجزء الثالث برصد صعود المتشددين الإسلاميين من جماعة الإخوان المسلمين والجهاديين، وتسيد ثقافة التحريم والمنع التي تمثلت في كثير من المظاهر الحياتية ومنها ظاهرة السماح للمرأة بقيادة السيارة، تلك التي حشد خطباء الصحوة كل جهدهم لمحاربتها وتحريمها
ومنعها، كما أظهر المسلسل جانبا من حالة التشدد التي سادت جهاز هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في وقت سابق، كما أشار إلى التنظيمات الجهادية وحالة جمع الأموال للحرب في أفغانستان، وحجم التأثير السلبي على المجتمع السعودي في حينه، وأبرز المسلسل تعاطي المجتمع السعودي مع الغزو العراقي للكويت، مبينا حالة اللحمة المجتمعية بين المملكة والكويت، وفوق ذلك فقد رصدت المشاهد تنامي الوضع الاقتصادي الذي شهد صعودا كبيرا وانتشارا للشركات والمصانع وبناء الأراضي، وزيادة الدخول، وغير ذلك من مظاهر النمو والتطور الحياتي.
أخيرا، ليسمح لي الفنان ناصر القصبي ورفاقه الرائعين سيدات وسادة أن أهمس في أذنهم قائلا بحب: إن مجتمعنا يتعرض للهدم في كثير من مناحي منظومته المجتمعية والأسرية، ويتعرض للتغييب وإمعان الفصل بين ماضينا بمنظومة قيمه الأصيلة، وواقعنا المعاصر الذي يتصدر مشهده التافهون للأسف الشديد، وأنتم أيها الفنانون عليكم مسؤولية كبرى في مواجهة هذه المخاطر، فكونوا كما نرجو، وخلدوا أسماءكم في سماء ذاكرتنا بما يليق بكم. وكل عام وأنتم بخير.
zash113@