الهجرة موت بطيء يجفف أكباد القرى!
الثلاثاء - 19 أبريل 2022
Tue - 19 Apr 2022
على مخرج القرية، خطفت أضواء سيارة الشرطة بصري، ظننتها نقطة تفتيش، وهممت بتجاوز المكان، لكني عرفت سيارة راجح وهي تقف بشكل مريب، نزلت فلم أجد أحدا، ثم سمعت أصواتا خلف السيارة، والتمعت إضاءات مصابيح الجوالات، فتوجهت إليهم، تحت شجرة السدر الضخمة، ورؤوسهم مرفوعة إلى أعلى، يقولون: «انزل ويصير خير، انزل يا رجل» فاقتربت أكثر وسلمت عليهم، ونظرت إلى أعلى فرأيت رجلا أسمر البشرة يرتدي ملابس سوداء، وعلى فمه كمامة سوداء، ولا يتكلم، عيناه المرعوبتان تحملقان فينا، ويهز رأسه رافضا النزول، ويومئ بيده أن نبتعد.
سألت راجح، ما الأمر؟ قال: انظر إلى عجلات سيارتي الأربع، كلها معطوبة، فهذا المجنون وضع قطعة مطاطية من إطارات السيارات مليئة بالمسامير جوار الطريق من الطرف الآخر، وحين اقتربنا سحبها بالحبل من الجهة المقابلة، ولم أستطع تفاديها، كادت السيارة أن تنقلب لولا أن سرعتنا منخفضة، رآه ابني معيوض، ونزل ليمسك به، فهرب وتسلق شجرة السدر، واتصلنا بالشرطة، ولنا زهاء الساعة وهو متعلق في الأعلى!
نظرت إليه، وقلت: اتركوه لي، رفعت طرف ثوبي من الأسفل، وأوحيت له أنني سأتسلق، فأشار إلي بعصا طويلة، فتراجعت وقلت: «انزل وتراك في وجهي»، فضحك، لكن طقطقة مسدس الشرطي قطع ضحكته، وهو يسحب أجزاء المسدس وقبل أن يرفعه، صاح الرجل، وقال بلكنة إفريقية: سأنزل سأنزل، فتحلقنا وهو ينزل رويدا رويدا، حتى جثا على ركبتيه، فصفّد الشرطي يديه خلف ظهره، ثم اقتاده إلى السيارة بملابس (بات مان)، وكشف عن وجهه أمام أضواء السيارة، وكما يفعل المحاربون؛ لطخ وجهه ويديه بمسحوق الفحم الأسود، لكنه الشاب السبعيني مصلح!
صاح راجح: «مصلح؟! خيّبك الله، بغيت تقضي علينا»، ثم سأله: ماذا لك عندنا حتى تجرؤ على هذا الفعل الشنيع؟، فأجاب مستهزئا: وماذا لك عندنا حتى تهجر قريتنا وتهاجر بأسرتك؟ هل تعلم أن فعلك أشنع من فعلي؟ هي أربع عجلات يمكن إصلاحها، وأنا أعلم أنك لا تسرع في هذا المنعطف؟
أنت وأمثالك تهجرون قرانا ليس لأنكم مضطرون، بل إمعانا في الأنانية وشهوة الترف، ألا تدركون أن هجرتكم تؤثر على التنمية والخدمات؟ بعض مدارسنا أغلقت، والخدمات الصحية مهددة بالإغلاق، والخدمات البلدية تتراخى لأن عدد المستفيدين في تناقص مستمر، وكل المشروعات التنموية تتعطل؟ أفلا تعقلون؟!
أسقاه الشرطي ماء، فاستمر مصلح: أنا لم أعترض طريق من هاجروا مرغمين، إما للعلاج أو للتعليم، أو التجارة، أو لأمر أجبرهم على الرحيل، أما أنت والآخرون الذين هاجروا «شطر بطر» فهذا المنعطف يعلم ماذا فعلت بهم، ثم نظر إلى الشرطي، وقال: «أيها البطل، الآن وقد ظهرت لك الصورة الكاملة، فأطلق سراحي، فأنا رجل الغايات النبيلة، قلبي على قريتنا التي تنسل منها روحها جزءا جزءا، ثم أنشد على طريقة (المجس الحجازي) قول امرئ القيس:
«فيا ليتها نفسٌ تموت جميعة/ ولكنها نفسٌ تساقط أنفسا»
فقال الشرطي: يا لك من حكيم نبيل، قطعت الطريق، وعرّضت حياة أسرة كاملة للخطر، وتتحدث عن النبل؟ تنتظرك قضايا أخرى مسجلة ضد مجهول، ربما تكون أنت صاحبها يا (بات مان) العصر الجاهلي!
حكم القاضي على مصلح بالسجن عاما كاملا، مع خروجه مدة ست ساعات يوما بعد يوم لتنظيف القرية، وفي تلك الأثناء أرسل إلي يقول: «يا صديقي، أصحاب الأفكار المتجاوزة، والأفعال النبيلة، دائما يدفعون ثمن مواقفهم، وسيتذكر أصحاب القرية المهاجر أهلها أنهم فرطوا في مصلح وفي قريتهم، وأغراهم بريق المدن -وهو برق خُلّب- أن يجففوا أكباد القرى، لكنهم سيعودون إليها وقد نالت المدينة من أرواحهم وصحتهم وشخصياتهم وثقافتهم، فالمجد، كل المجد للقرى». وسمعت بعد حين أن مصلحا خرج من السجن، وقدم مبادرة (القرية العصرية) يقال أنها يسرت على أهل القرى صعابا جمة، وحركت عجلة التنمية، وصرفت رغبة الهجرة عن كثير منهم.
@ahmad_helali
سألت راجح، ما الأمر؟ قال: انظر إلى عجلات سيارتي الأربع، كلها معطوبة، فهذا المجنون وضع قطعة مطاطية من إطارات السيارات مليئة بالمسامير جوار الطريق من الطرف الآخر، وحين اقتربنا سحبها بالحبل من الجهة المقابلة، ولم أستطع تفاديها، كادت السيارة أن تنقلب لولا أن سرعتنا منخفضة، رآه ابني معيوض، ونزل ليمسك به، فهرب وتسلق شجرة السدر، واتصلنا بالشرطة، ولنا زهاء الساعة وهو متعلق في الأعلى!
نظرت إليه، وقلت: اتركوه لي، رفعت طرف ثوبي من الأسفل، وأوحيت له أنني سأتسلق، فأشار إلي بعصا طويلة، فتراجعت وقلت: «انزل وتراك في وجهي»، فضحك، لكن طقطقة مسدس الشرطي قطع ضحكته، وهو يسحب أجزاء المسدس وقبل أن يرفعه، صاح الرجل، وقال بلكنة إفريقية: سأنزل سأنزل، فتحلقنا وهو ينزل رويدا رويدا، حتى جثا على ركبتيه، فصفّد الشرطي يديه خلف ظهره، ثم اقتاده إلى السيارة بملابس (بات مان)، وكشف عن وجهه أمام أضواء السيارة، وكما يفعل المحاربون؛ لطخ وجهه ويديه بمسحوق الفحم الأسود، لكنه الشاب السبعيني مصلح!
صاح راجح: «مصلح؟! خيّبك الله، بغيت تقضي علينا»، ثم سأله: ماذا لك عندنا حتى تجرؤ على هذا الفعل الشنيع؟، فأجاب مستهزئا: وماذا لك عندنا حتى تهجر قريتنا وتهاجر بأسرتك؟ هل تعلم أن فعلك أشنع من فعلي؟ هي أربع عجلات يمكن إصلاحها، وأنا أعلم أنك لا تسرع في هذا المنعطف؟
أنت وأمثالك تهجرون قرانا ليس لأنكم مضطرون، بل إمعانا في الأنانية وشهوة الترف، ألا تدركون أن هجرتكم تؤثر على التنمية والخدمات؟ بعض مدارسنا أغلقت، والخدمات الصحية مهددة بالإغلاق، والخدمات البلدية تتراخى لأن عدد المستفيدين في تناقص مستمر، وكل المشروعات التنموية تتعطل؟ أفلا تعقلون؟!
أسقاه الشرطي ماء، فاستمر مصلح: أنا لم أعترض طريق من هاجروا مرغمين، إما للعلاج أو للتعليم، أو التجارة، أو لأمر أجبرهم على الرحيل، أما أنت والآخرون الذين هاجروا «شطر بطر» فهذا المنعطف يعلم ماذا فعلت بهم، ثم نظر إلى الشرطي، وقال: «أيها البطل، الآن وقد ظهرت لك الصورة الكاملة، فأطلق سراحي، فأنا رجل الغايات النبيلة، قلبي على قريتنا التي تنسل منها روحها جزءا جزءا، ثم أنشد على طريقة (المجس الحجازي) قول امرئ القيس:
«فيا ليتها نفسٌ تموت جميعة/ ولكنها نفسٌ تساقط أنفسا»
فقال الشرطي: يا لك من حكيم نبيل، قطعت الطريق، وعرّضت حياة أسرة كاملة للخطر، وتتحدث عن النبل؟ تنتظرك قضايا أخرى مسجلة ضد مجهول، ربما تكون أنت صاحبها يا (بات مان) العصر الجاهلي!
حكم القاضي على مصلح بالسجن عاما كاملا، مع خروجه مدة ست ساعات يوما بعد يوم لتنظيف القرية، وفي تلك الأثناء أرسل إلي يقول: «يا صديقي، أصحاب الأفكار المتجاوزة، والأفعال النبيلة، دائما يدفعون ثمن مواقفهم، وسيتذكر أصحاب القرية المهاجر أهلها أنهم فرطوا في مصلح وفي قريتهم، وأغراهم بريق المدن -وهو برق خُلّب- أن يجففوا أكباد القرى، لكنهم سيعودون إليها وقد نالت المدينة من أرواحهم وصحتهم وشخصياتهم وثقافتهم، فالمجد، كل المجد للقرى». وسمعت بعد حين أن مصلحا خرج من السجن، وقدم مبادرة (القرية العصرية) يقال أنها يسرت على أهل القرى صعابا جمة، وحركت عجلة التنمية، وصرفت رغبة الهجرة عن كثير منهم.
@ahmad_helali