فرحان الذعذاع

«الثأر والعار»

الاثنين - 11 أبريل 2022

Mon - 11 Apr 2022

«إذا وصل القاتل مأمنه عُدّ ذلك المجلى، والدغيرات من شمر المجلى الوحيد، ثم صارت عبده كلها مجلى، ولا يكفي أن يركن وحده، وإنما أقاربه إلى ثلاثة أظهر مطالبون بالدم ويضطرون أن يلجؤوا إلى الدغيرات، وأما الظهر الرابع والخامس فإنهما بوسعهما أن يخلصا أنفسهما بما يقدمونه، فالخامس يعطي ناقة والرابع أربعا، والأكثر على اعتبار أن الخامس يقدم ويسلم من المطالبة. وولي المقتول وأقاربه الأدنون لا يتركون المطالبة، فإذا ظفروا بالقاتل قتلوه، وحينئذ يحق للدغيرات أو لعبده مطاردته وقتله من يوم قتل أو ليلته إلى وقت الظهر، وفي هذه الحالة لو تمكنت منه وقبضت عليه قتلته وصار دمه هدرا. ولكن ليس لها حق تعقب أثره لأكثر من هذه المدة، ولا يحق لها المطالبة (بالحشم) عن انتهاك حرمة مجلاها، كما أن أقارب المجني عليه وأولياءه لو عقروا الإبل، أو الخيل، أو الدواب الأخرى دون أن تتمكن القبيلة المجلى فيها من قتله أو الظفر به سقط حقها، ولا يتوجه الفصل عليه، ويهدر الدم من المطالبة به وقبل أن يتمكن المرء من الدخالة، أو الوصول إلى المجلى يحق لأهل القاتل وأقاربه قتله، أو عقر دوابه وإهانة أقاربه وهذه تسمى (فورة الدم)». من كتاب عشائر العراق للمحامي عباس العزاوي.

هذه مقتطفات من قانون البادية الخاص بمسألة وجودية وهي مسألة «الثأر» والذي كانت له قوانين وقواعد صارمة ومُلزمة عند البدوي تناسب زمنه في غياب الدولة والشريعة، فقد كان البدوي يسن القوانين التي تناسب أسلوب حياته وتحقق له البقاء والعدل والمساواة حسب منظوره!

بعد قيام الدول وقوانينها ساد العدل وأقيمت الشريعة وانتهت القوانين التي ربما كانت تناسب حال من سنّوها وكانت الوسيلة الوحيدة للبقاء برغم أنها تحوي على مخاطر أعظم قد تتسبب في إنهاء حياة من لا ذنب لهم!

لم يعد الأب والأخ والأقارب لخامس ظهر أو أدنى من ذلك مسؤولين عن جريمة ارتكبها شخص لمجرد صلة القرابة! فالثأر والاقتصاص كان سيلحقهم لو استمرت حياة البدوي بلا دولة، هذا التكافل بالمصير جورا انتهى إلى غير رجعة وتحقق العدل (ولا تزر وازرة وزر أخرى).

لكن بقيت بعض الآثار المحسوسة والتي لا يمكن للقوانين وحدها أن توفر الحماية للمظلومين منها لصعوبة الإثبات، إنما العلاج يكون بالوعي والإنصاف، فممارسة هذا الظلم تأتي على شكل انطباع ومزاج لا يمكن إثباته حتى يتم تجريمه، فالنظرة الدونية تجاه شخص أو أسرة أو قبيلة أو منطقة هي شعور ومزاج داخلي وإصلاحه يكون بالوعي والإنصاف ومراقبة الله.

«العار» هذه الصفة التي توازي «الثأر» أثرا وقد تفوق عليه انتشارا وضررا! قد يظلم جراؤها القريب والبعيد لمجرد الاشتراك باسم العائلة أو القبيلة أو أي صفة مشتركة!

إذا كان البدوي في حياة اللادولة واللاشريعة يثأر للمقتول حتى خامس ظهر (الجد الخامس) فإننا اليوم من خلال وسائل التواصل نلصق «العار» بالخامس والسادس والحادي عشر بل والأسرة كاملة والقبيلة وقد نتجاوز ذلك إلى المنطقة التي يسكنها هذا المعتدي!!

«العار» الذي أصبحنا نوزعه على الناس بلا وازع من ضمير أو خشية أو تثبت وتحقق من تفاصيله ودوافعه التي قد يفاجئنا فيها اختلال عقل من قام به! مع ثورة تقنية قادرة على صنع التضليل والخداع والكذب والتزوير، واستهداف مناطق بعينها أو أسر وقبائل محافظة تاريخها مليء بنصرة المظلوم ورعاية المحتاج والمحافظة على العرض وكل خلق شريف وعفيف، وتحت رعاية دولة لا تقبل المساس بخصوصيات الناس والتعدي على إنسانيتهم وأخلاقياتهم ولا يُستبعد أن يكون وراء أي حدث من هذا النوع منظمات لديها أجندات وتسعى لتجنيد أي شخص يحقق أهدافها، مع أن هذا لا ينفي أن يكون هناك فعلا بعض من يرتكب الجرائم الفردية الشاذة في مجتمعاتنا المحافظة!

مع هذا الانفتاح الذي جعل العالم قرية واحدة رغما عن الجميع أصبح الوعي (الذاتي) الفردي ضرورة ماسة بعد أن تحطمت كل التحصينات، إذ لا حدود ولا مسافات مع وسائل تواصل في عالم رقمي مفتوح ولا حواجز لغة مع برامج ترجمة ولا ثقة مع برامج صوت وصورة تصنع لك الحدث الذي تريد بالشخصيات التي تريد حتى أصبحنا فعلا نعيش العالم الافتراضي واقعيا والواقعي افتراضيا!

في العالم الافتراضي لا أحد يستطيع حماية فكرك أو تصرفاتك ولا قيمك أو دينك؛ فعالمك التقني لك وحدك تعيش كل تفاصيله وأنت في عقر دارك تكتسب منه أخلاقياتك، تتعرف على أصدقائك تمارس هواياتك وأعمالك وحياتك الخاصة التي قد تفاجأ أسرتك يوما ما بأخلاقيات أو سلوكيات هي من «العار» الذي عاش والداك سنوات طويلة وهم يحاولون حمايتك منه! لكن كانت سيطرة التقنية وفرض أخلاقياتها وسلوكياتها أقوى من كل تربية وتنشئة.

نعم قد نقبل تعميم العار عندما كان الفرد نتاج الأسرة والمجتمع وانعكاس لأخلاقها وسلوكها أما اليوم فقد أصبح تأثير الأسرة والمجتمع الواقعي بأضعف حالاته، وأصبحت وسائل التواصل هي المؤثر الأكبر ومن الظلم إلحاق العار بأسرة أو مجتمع لمجرد ارتكاب فرد منه سلوك مشين تأثرا بأخلاقيات هذا العالم المفتوح!

بل من العدل والعقل أن يخصص العار بعد الثبوت وانتفاء الأسباب بمرتكبيه تحديدا دون تجاوزهم إلى (خامس ظهر).

@_shaas_