سليمان الهويسين

الرسالة النبوية الفريدة للشباب

الأربعاء - 30 مارس 2022

Wed - 30 Mar 2022

للشباب عند المصطفى عليه الصلاة والسلام أهمية بالغة وقيمة عالية ومكانة سامقة، يشهد بهذا نصوص شريفة متعددة، عبر فيها صلى الله عليه وسلم عن هذه الأهمية والقيمة والمكانة، ويشهد لذلك الاستقراء العام الشمولي لسيرته الشريفة عليه الصلاة والسلام الحافلة بأمثلة ومواقف لا حصر لها في هذا السياق.

إلا أنه؛ ورغم هذا القدر الرفيع للشباب عنده عليه الصلاة والسلام؛ فهناك ملاحظة ملفتة.. أن الخطاب العام الوحيد الذي وجهه المصطفى صلى الله عليه وسلم للشباب دون تخصيص كان لمرة واحدة..!! وفي قضية محددة وواضحة.. بل وقدم خلالها أيضا توصية محددة ترتبط بها..!!

فعن عبداللَّه بن مسعود رضي الله عنه: قال لنا رسول اللَّه ﷺ: «يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أَغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإِنه له وِجاء».

تلكم هي الوصية النبوية الفريدة التي أسداها سيد الأولين والآخرين ﷺ للشباب بعمومهم، وهي رغم وجازتها وتعدد صيغ ورودها؛ إلا أنه وجهت الفكر والاهتمام لشأن بالغ الأثر وعظيم التبعة، وهي تقدم لنا وصية استثنائية، تلخص في طياتها أسلوب التعاطي الأمثل لفئة الشباب وقضاياها الجوهرية على اختلاف الأزمان والأماكن.

ولمحاولة إدراك مرامي هذا النص سنقوم بتفتيته إلى مكوناته الرئيسة.. لنقف على ما هو آت:

أولا: «يا معشر الشباب» الطاقة إذ لا ترعى..!!

خصهم عليه الصلاة والسلام بالنداء، وأفردهم بالخطاب، وذلك بسبب ما يعتمل فيهم من طاقة عالية مستعرة، سواء كانت طاقة غريزية أو جسدية أو عاطفية أو ذهنية، وكأنها إشارة لطيفة إلا أن القيمة الكبرى لدى الشباب هي الطاقة، وهي التي بموجبها استحقوا هذا الإفراد لهم.

إذن فهم طاقة، وكما لا يخفى فإن الطاقة المهملة هي مصدر للخطر، بينما الطاقة الموجهة هي مورد للنفع، وهذه النظرة للشباب أنهم طاقة تتضمن الدعوة للمجتمع للعناية بهم والاهتمام بشأنهم والعمل على استثمارهم غاية ما يمكن، أيضا فهم مع هذه الطاقة يفتقرون للخبرة الحياتية التي تعينهم على التعامل مع أحداث الحياة ومتطلباتها، ولعل هذا هو الوجه الآخر للأهمية التي استدعت هذا الاهتمام والتركيز.

ثانيا: «من استطاع» مراعاة تفاوت القدرات..!!

العوائق - التي تعترض الشاب في سعيه نحو مراداته - لا تنقضي، بل تتجدد وتتكرر في حياة كل منا، ولذا اختلفت استطاعتنا وفقا لاختلاف عوائقنا.. حتى وإن اعتملت الطاقة في أعماقنا إلا أن الاستطاعة متباينة بيننا، هذه الاستطاعة لدى الشاب تأخذ صورا متعددة وتتوزع في جوانب مختلفة من حياته، وهي بدورها تتيح له التقدم في ميادين دون أخرى، وتساعده على النجاح في مواقف دون مواقف، وتذلل له اجتياز صعوبات دون صعوبات، وهذا ما يعزز أهمية إدراك الشاب لحاجاته وفهمه لخصائصه وإمكاناته ومزاياه التي حباه الله إياها، وكيف أنه بهذه الأعطيات سيترتب عليه واجبات ومسؤوليات توجب عليه التعرف عليها والقيام بها.

ثالثا: «الباءة» القدرة والطاقة والعطية توجب الحق عليها

وجود القدرة لدى الشاب يوجب عليه حقوقا والتزامات، وأيضا يسوغ له المطالبة بالحصول على ما تتطلبه هذه الطاقة وما تحتاجه حتى تستثمر في مكانها المخصص لها فتنتج وتثمر، و»الباءة» الواردة في نص الحديث الشريف أشارت إلى القدرة على القيام بالوظيفة الغريزية؛ والتي جاء الأمر بالزواج بناء على وجودها؛ فكأنها بمثابة الشرط للوجوب، وقياسا على هذا؛ يمكن أن نستل من هذا التوجيه قاعدة عامة مفادها أن القدرة والطاقة هي مفتاح المسؤولية، وبوابة المكانة وطريق الترقي، ولذا فإن استطاعة الشاب تحمله المسؤولية وتلقي عليه التبعة وتوجب عليه الاستجابة.

وهذه الطاقة أو «الباءة» هي سلاح ذو حدين وسيف بنصلين وخنجر برأسين..!! إذ قد تكون معراجا يصعد بالشاب لآفاق السداد والرشاد والفلاح، وقد تكون منزلقا يهوي به في دركات لا قاع لها، وهذا ما أوضحه نص الحديث الشريف الذي أكد أن هناك واجبا يترتب على من استطاع الباءة وامتلك القدرة وحاز الطاقة.

رابعا: «فليتزوج» التناغم مع الفطرة

حض وحث ودعوة سامية نبيلة من المصطفى ﷺ لذاك الشاب الذي منح القدرة أن يتسق مع جبلته وبشريته وطبيعته؛ ليستوفي عرى كماله، ويتم حلقات بهائه.

إن الإنسان عموما - والشاب خصوصا - يغدو في أسمى مراتبه وأكمل أحواله وهو يستجيب لفطرته التي فطره الله عليها، ولا يتعامى عن حاجات تلك الفطرة أو يتجاهلها ويهملها، سواء فطرته الجسدية أو العاطفية أو الروحية أو العقلية، ويكون في تلك الحالة أكثر اتزانا وأعمق رسوخا وأوسع أفقا وأصلب ثباتا، وما ضلت البشرية يوم ضلت إلا حينما أعمت ناظريها عن حقيقة حاجاتها الفطرية ومتطلبات استقرارها، وهامت على وجهها في دروب الشتات والحيرة والضياع من غير هدى ولا كتاب منير.

سيعيش الشاب في سكون واستقرار وهو يسعى لاستيفاء متطلبات حياته واستكمال احتياجات فطرته، وسيغدو أكثر قدرة وطاقة وأجود تماسكا وثباتا وأصلب عودا وأقوى عريكة وأعمق رسوخا حين ذاك.

والحديث الشريف الذي خص الزواج دون ما سواه؛ قد أشار إلى محورية هذه الحاجة لدى الشباب وعمق تأثيرها؛ وكأنها الأساس لما سواها وما يأتي بعدها.

والزواج في معناه الأصيل أكثر من مجرد الارتباط أو الالتقاء.. بل يتعدى ذلك إلى أن يتمثل في الانصهار والازدواج والتداخل والتلاحم في شتى الجوانب العاطفية والروحية والجسدية والعقلية.

خامسا: «أغض للبصر» إحكام بوابة التشويش

هاهنا لفتة أستاذية عميقة من المربي الأكبر والموجه الأعظم والمرشد الأخبر ﷺ، تضع المؤشر على موطن الخطر الأكبر، وتسلط الضوء على الشرارة التي تنطلق منها النيران الحارقة؛ فالنظرة هي بمثابة انطلاقة الطفل الشارد المنعتق من حمى والده وعنايته، ولا يدري إلى أين تقوده خطاه.

وهي تنبيه لطيف إلى كل أحد أن يتنبه لأي بدايات تفضي إلى نهايات موجعة..!!

وقد وصف الحديث الشريف الحال المطلوب أن يكون عليه الشاب وأن يتمثله وهو «أغض للبصر» وكأن المطلوب من الشاب ليس مجرد الإشاحة بالعين عن النظرة العابرة فقط، بل تجاوز ذلك إلى الترقي في التوقي من السهام الطائشة التي قد تودي بنقاء وطهر تلك الأبصار وتحط من شموخ تلك البصيرة من خلفه..!!

وتأمل فضيلة الغض.. التي تشمخ بالشاب بين نقيصتي عمى العين الحاجز لها عن التقاط أي ضوء، وبين شرودها الجالب لها كل وبال؛ فتكون شغوفة بالتأمل والتمعن في ما يزيدها شفافية وفضيلة، ومتحرزة متحفظة من أي دنس يشين صفاءها وعفتها.

سادسا: «أحصن للفرج» رمزية الحصانة والمحصن

استشعر الرسالة التي يبثها سيد ولد عدنان ﷺ في هذه العبارة، ومقدار عمق دلالة لفظ الحصانة، وظلالها المنعكس في نفس الشاب وهو يرسم في مخيلته الحالة التي يجب أن يكون عليها وهو في مأمن من ينال حصنه بسوء أو يتعرض لأي شائن يشينه.

وكذلك تأمل الوقع النفسي لعظم شأن ما دعي الشاب لتحصينه والعناية بحفظه وصيانته، وكأنها ناقوس يدق لإثارة الاهتمام ولفت الانتباه إلى مقدار الخطر المترتب على كل شاب منه، كونه احتياجا لابد أن يشبع، وكون المحتاج ضعيفا عن مقاومة احتياجه على الدوام؛ فالخطر يستحق أن يجسد بهذا التصور وهذا المشهد.

إذن فهي قضية ملحة تستوجب الاهتمام بتحصينها.. للحيلولة دون الوقوع في المهالك.

سابعا: «فمن لم يجد» المراعاة..!!

تختلف الظروف وتتباين القدرات وتتمايز الإمكانات، وتبعا لذلك ستختلف الاستجابات والتحولات، ومن هنا كان مبدأ المراعاة حاضرا وقائما في التعاطي مع التحديات التي يعيشها الشاب ويكابد لأواءها في أيامه.

ولاحظ «فمن لم يجد» يجد.. أي أنه استفرغ وسعه في البحث والتفتيش والمحاولة الجادة المرة تلو المرة وفي نهاية المطاف «لم يجد» ففي حقه وحالته هذه تكون المراعاة.

ثامنا «فعليه بالصوم» إحكام ضبط النفس بمنعها..!!

تأجج النوازع واشتعال الرغبات واضطرام البواعث أمر ملازم للنفس البشرية، وهو عند الشباب أشد وأقوى وأفتك، يحيل فؤاده المسكين إلى جحيم مستعر يتلظى بحمم لا تبقي فيه ولا تذر، ولا طاقة له بالصبر على سعيرها، فكان الصوم، والكبح، والكف، والإلجام، والحرمان الإرادي.. طوق نجاة يعصم من الاحتراق في تلك القفار والمهالك.

وهذا شأن قائم باق في تعاطي النفس مع الملذات من حولها، تأمل قول الحق تبارك وتعالى ﴿ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأَبقى﴾ [طه: 131]

تاسعا: «له وجاء» الحماية من ماذا.. نوازعك الداخلية هي عدوك

إشارة عميقة وجليلة وحصيفة.. تتثمل في أن الشاب بهذا الصوم يبني من حوله وقاية ترد عنه عدوان أعدائه، وأي أعداء أولئك الذي يردون بإضعاف البدن وحرمانه؟؟!!.. إنهم من يستقوون بالشاب عليه، وينتصرون بقواه على ضعفه.. إنهم من داخله، ومن صميم ذاته.. هم شهواته، ونزواته، وشياطينه.. الذين يضعفون ويخمدون ويذوبون أمام وجاء الصوم الواقي المنيع..!!

إذن، فهكذا كانت الرسالة النبوية الفريدة للشباب، وهكذا كان فحواها ومحتواها، وهي على وجازتها قدمت للشباب منهج حياة يستطيع من خلاله أن يتقي كل صنوف الخطر وأشكال الهزيمة وألوان الانكسار.

SulaimanFH@