زيد الفضيل

تحقيب جديد لعالم جديد

السبت - 26 فبراير 2022

Sat - 26 Feb 2022

أيها المؤرخون نحن أمام تحقيب جديد لعالم جديد، عالم لا أظن أننا نستطيع أن نتزامن معه بآلياتنا وقواعدنا المنهجية التي ألفنا التفكير بها وقراءة المشهد التاريخي من خلالها، ولعل أول ما نواجهه من تغيير في قواعد وآليات منهجنا التفكيكي كامن في حالة التسارع المذهلة للحالة التاريخية، وهو تسارع لا يكاد يلمسه المؤرخ المهموم برصد المتغيرات في الواقع المعاش حتى يفاجأ بتغييره مرة أخرى، وكأننا في حلبة سباق لا نعرف لها بداية وليس لها نهاية منظورة.

في الماضي ألف المؤرخون على تقسيم المئة عام بين جيلين إلى ثلاثة أجيال، وكان مقدار التغيير بين الجيل الأول والثالث في كل مئة عام طفيفا جدا، حتى أنه قد تمر عدة قرون ولا يحدث أي تغيير في البنية المكانية، والتنظيم الحياتي، والتقسيم الأسري، ضمن أي مجتمع إنساني على هذه البسيطة بأكملها. ولعل ذلك كان ملحوظا إلى منتصف القرن العشرين الميلادي تقريبا، الذي تمثل الأجيال المولودة فيه آخر الأجيال ارتباطا بما سبق من قرون طويلة في عمر الزمن، وهي أول الأجيال تأسيسا لعصر جديد بملامح جديدة في عمر الزمن المستقبلي، الذي صار يقاس الجيل فيه بالعقود، ثم بالأشهر، وقد يقاس مستقبلا بالأسابيع والله أعلم.

في هذا السياق وحتى منتصف القرن العشرين كانت الحياة في كل المدن شبه ثابتة، ولا سيما المدن المسورة منها، فعلى سبيل المثال: كانت الرياض وجدة والطائف علاوة على مكة المكرمة والمدينة المنورة محصورة في مساحة مكانية محددة، ويصعب أن يحدث تغيير في بنيتها العمرانية وكذلك المجتمعية لسنوات طوال، حتى ليمر القرن ثم الذي يليه ولا يكاد يحدث أي تغيير في بنية الحارة عمرانيا ومجتمعيا، وبالتالي فحجم التغيير الحضاري يكون طفيفا أيضا، ومتغيرا بمقدار حالة التواصل مع الآخر التي كانت تمشي برتابة بحكم وسائل الاتصال القديمة المتاحة في وقته. إذ كانت المسافة بين جدة ومكة تأخذ قرابة يوم ونصف على ظهور الإبل لمن كان مستعجلا، وحين وجدت المركبة السيارة في بدايات القرن العشرين كانت تستغرق قرابة نهار كامل، وهكذا الأمر مع مختلف المدن المجاورة كالمدينة المنورة التي يستغرق الوصول إليها بالمركبة السيارة عدة أيام، على أن الأمر قد بات متغيرا اليوم، فالرحلة للمدينة المنورة باتت تأخذ نصف ساعة بالطائرة، وساعة ونصف بالقطار، إلى ثلاث ساعات بالمركبة السيارة.

هذا نموذج واحد لطبيعة التسارع الذي صرنا نعيشه اليوم، ناهيك عن طبيعة التسارع المذهل في التقنية وما يتعلق بها، وكل ذلك يصعب تتبعه وتتبع آثاره الإنسانية على أي مؤرخ يريد توثيق المرحلة وتتبع آثارها بالدراسة والتحليل، إذ ما يبدأ بالارتكاز على قيمة معينة حتى يتفاجأ بانتهائها وتلاشيها من حياة المجتمع الذي يستهدفه بالدراسة.

وهكذا الأمر دواليك، وكم أخشى أن يتحول المؤرخ إلى خيال مآتة إن لم يطور من أدواته، ويوجد آلية جديدة لقراءة الحدث التاريخي وتتبع مساراته في الوقت الحاضر والمستقبل، وهو ما أدعو جمعية المؤرخين العرب، وجمعية تاريخ وآثار الخليج، وجمعيات التاريخ وأقسامه في العالم إلى التفكير في حيثيات المرحلة المعاصرة، والوصول إلى صيغة جديدة للتحقيب أولا، ومن ثم إيجاد سبل متطورة لدراسة الواقع وفهمه وفق رؤية تاريخية حديثة وبأدوات منهجية جديدة.

وحول موضوع التحقيب فأشير إلى أن المؤرخين قد قسموا التاريخ الإنساني إلى عدة حقب مختلفة، ابتداء بتحقيب العصور كأن نقول العصر الحجري ثم العصر النحاسي ثم العصر البرونزي ثم العصر الحديدي، وننتقل لنقول العصور القديمة ثم العصور الوسطى ثم العصور الحديثة، ولكل منها فاصل زمني وحدث تاريخي مفصلي، فمثلا كان اكتشاف الطباعة في منتصف القرن الخامس عشر الميلادي وابتداء الكشوف الجغرافية في أواخر ذات القرن أساسا فاصلا بين عصرين من حيث التحقيب، حيث مثلا علامة لانتهاء العصر الوسيط وابتداء العصر الحديث.

والسؤال: ألا يمكن أن يكون منتصف القرن العشرين فاصلا بين عصرين زمنيين بشكل كلي، فما قبل منتصف القرن العشرين بتقسيماته وعصوره شيء، وما بعد منتصف القرن العشرين شيء آخر لا يقاس بأدوات ومنهج وعلوم وفهم إنسان المرحلة السابقة.

بمعنى آخر فإننا قد نكون أمام تغيير جذري في السياق البشري بمختلف قيمه وأفكاره ومبادئه وحتى إيمانياته في حال استمر هذا الرضوخ العاجز للذكاء الاصطناعي واستمر معه تهميش أنسنتنا، التي باتت ضائعة مع الرضوخ مجددا لهذا التفلت القيمي والمعرفي، الذي أعلى من شأن التافهين، وحجم وكبل الواعين القادرين على إعادة ضبط مسار قطار الإنسانية وفق قيمها وأخلاقها المتفق عليها في كل الشرائع والديانات.

إننا أمام مفصل تاريخي مهم، فإما أن نستعيد وعينا ونكون كما أراد الله مستخلفين في أرضه بكل وعي وإدراك وانضباط، أو نتوه في حبائل الشيطان الهادف إلى إغواء وتحطيم كل قيم الإنسانية وضوابطها معصية لله وتحديا له. فيا أيها العالم: متى تصحوا؟