حسن علي العمري

التفسير القضائي

السبت - 12 فبراير 2022

Sat - 12 Feb 2022

سبق التأكيد في مقال سابق على أهمية السلطة القضائية ودورها الهام في تاريخ الدول والمتأمل منها في تعزيز مسيرة التنمية والرفاه في مسيرة الدولة المدنية الحديثة، ولعل من النقاط الهامة التي سأناقشها هنا ما يتعلق بمسألة التفسير القضائي للحالات والوقائع المنظورة والأنظمة المتعلقة بها -كدور دقيق وبديع تقاس به جودة القضاء- فالتفسير بالنسبة للقاضي ليس غاية في حد ذاته، وإنما هو وسيلة للفصل في تلك الحالة من النزاع المعروض عليه، ولذلك كان من المقرر أن يقبل رفع دعوى إلى القضاء، يطلب فيها صاحبها تفسير قاعدة قانونية غامضة أو حكم صادر، وأن يكون ذلك بمناسبة نزاع فعلي معروض على القضاء، وفي بعض النظم القضائية كما في الأنجلوسكسوني ترفع بعض الدعاوى لمخاصمة القانون أو طلب تعطيل بعض نصوصه.

ونتأمل من النظام القضائي لدينا إحاطته المتعمقة بالمفاهيم الواسعة للتجريم والعقاب المختلفة ومدى حساسيتها ليمكنه القيام بدوره الأصيل تجاه مسؤولية تعزيز القاعدة القانونية، وأن يلعب دورا أعمق بكثير في مجال تفسير وتطوير وتنفيذ القانون، ولذلك من المهم العناية بتشجيع القضاة على الاجتهاد القضائي الوطني، في سبيل التوصل إلى قضاء واع ومستوعب وملم بالمستجدات الدولية على مختلف الأصعدة.

والأمر -في هذه المرحلة التحولية- بات بحاجة إلى تأصيل نصوص الاختصاص القضائي وتوزيع الاختصاص وتركيزه ومواكبته قواعد تحديد المسؤولية العقابية، بتوقيع جزاء المخالفة بين القضاء الجنائي والمدني والقضاء الإداري واللجان الإدارية ذات الاختصاص شبه القضائي.

ولكون المسؤولية الناشئة في أي مجال بين الشريعة الإسلامية والقانون هي «المؤاخذة وتحمل نتائج الأفعال الضارة المتمثلة بالاعتداء عليها أو على أحد مكوناتها، فهي أحد صور منهج الشريعة العقابي لكل معتد، ومصطلح المسؤولية مصطلح قانوني يعبر عنه الفقهاء بالضمان أو التعويض المالي، ومعناه: رد مثل التالف إذا كان مثليا، أو قيمته إذا كان لا مثل له».

إلا إن المتأمل في القوانين المتعلقة بالمسؤولية عن تعويض الأضرار مثلا يدرك انعدام وجود قواعد خاصة بالمسؤولية عن بعضها سواء ما كان منها حديث النشوء أو القديم الجديد كالأضرار البيئية سواء في الأنظمة الوطنية أو القانون الدولي.

ولعل من أولويات النظر القضائي تحديد الناحية النظامية بداية ومن ثم تحديد المخالفة وأركانها وأحوالها وسبل توافرها فالأصل أن الجزاء بمختلف أنواعه -المدني والجنائي والإداري- مقابل خطأ أو فعل مجرم، وهنا لا يمكن تفهم الجزاء من غير هذا التحديد مع بيان صور الاعتداء وآثار الحماية القضائية ثم توضيح الجزاءات القضائية المتنوعة الواردة في الفقه الإسلامي والأنظمة السعودية وبين الفروق الرئيسة بينها عند تداخلها وورود التجريم لفعل واحد في أكثر من نظام، وما السبب وراء تنوع هذه الجزاءات؟ وهل هذا التنوع والتداخل من شأنه تقوية خط الدفاع عن مفهوم الحق وتحقيق الردع بنوعيه من الانتهاكات بشكل فاعل؟ أم أنه قد يضعف هذه المواجهة حيث لا نستطيع أن نتبين ما إذا كان هذا الانتهاك لا يشكل خطرا أو مساسا بالنظام العام فيكتفي بجزاءات إدارية دون غيرها؟ أم أنه من قبيل الجرائم والأفعال الجسيمة التي تستلزم جزاء جنائيا حازما؟

ولكون القاضي -وهو رأس الحربة في العملية القضائية- عند ممارسة واجبه الوظيفي عليه واجب بيان موقف القضاء السعودي في المخالفات والجرائم وكيفية التعامل معها ومعالجتها، وفق الأصول الفقهية والنظامية والأعراف الخاصة بها، مع إبراز مرونة الفقه الإسلامي وقدرته على مواكبة التطورات الحديثة ومعالجتها بالجمع بين الأصالة والمعاصرة، فالقصور في هذا المجال يعد من المعوقات الأساسية لتبني سياسة قضائية متقدمة ومحاولة إظهار حقيقة المقصد من وراء هذا التعدد في الجزاءات وتأثيره الإيجابي أو السلبي على الحماية المتوخاة مما قد يشكل الخطوة الأولى التي يمكن البناء عليها في التفهم القانوني النظامي لمدى أهمية هذا التنوع ومقاصده في ظل الاستمرار بسن المزيد من الأنظمة وتقرير العديد من العقوبات الأصلية والتبعية والتكميلية، على الرغم من تدخل التشريعات وبكل الآليات الكفيلة بالحد من تهديدات الجريمة في أزمة حقيقية وهو بصدد مواجهتها حيث إن سبل المعالجة التقليدية المعروفة بما فيها الضبط الإداري لم تصبح ذات جدوى في ميزان هذه المواجهة. حيث تفرض المعالجة القانونية منهجية محكمة في توظيف مختلف الآليات القانونية المتاحة للحماية، من أجل التدخل بطريقة متكاملة وفعالة على مستوى مختلف مراحل المعالجة القضائية بأساليب وقائية أو تدخلية.

وسأعرض في مقال قادم بحول الله رؤيتي في مجال تطوير العملية القضائية فيما يخص القضاة، وسأقترح عددا من الحلول الملائمة التي يمكن تقديمها للجهات ذات العلاقة المعنية بالقضاء.

hass_qr@