روان آل عبد المتعالي

قبل أن تُهين الحروف

الخميس - 03 فبراير 2022

Thu - 03 Feb 2022

أتخيل أحيانا، ويحدث هذا عندما أهمّ بشرح فكرة ما في ذهني تكون تافهة في أصلها وأصر على تدوينها، أن للأحرف صوتا يتوسلني ألا أهينها بتكليفها مهمة وصف ما لا يليق بها وصفه، فما لهذا وُجِدت - تقول لي - وكأني بها ذات حصافة أكثر مني، ومن كثير من الناس (ممن يدّعون أنهم كتّاب ويا سُخف ما هم عنه يعبّرون) فيردني توسلها عما نويت كتابته، والعجيب أني بعد ترو وتدقيق في فكرتي يتبين لي صواب رأيها، إذ أدركت أن لها قيمة لا ينبغي هدرها في صياغة ما هو خال من القيم والمعاني، أو كان ذا معان رديئة مخزية. ولأجل هذا لقيت منها صباح اليوم إلحاحا لكتابة ما أنا بصدد كتابته الآن، دفاعا عنها، وعن وظيفتها في تشكيل الكلمات لإيضاح الأفكار، فليست كل فكرة أهلا لأن تُعطى وجها حتى من صاحبها، ومن ذلك بعض أفكاري فلا أستثني نفسي.

وفي هذا الأمر تشكو الأحرف عما تتعرض له من مهانة، وهي تبتلى غالبا في هذا الشأن باستخدامها من قبل عقول لا تخجل من طرح أفكار ما ينبغي أن يُحدّث بها المرء نفسه ناهيك على أن تأخذ طريقها لأسماع الناس أو يجعل منها كلمات مقروءة! تقول الحروف لو أن لي استطاعة على الرفض، لما أُلِّفَتْ كثير من الكتب والنصوص والمقالات، ولما سمحت للبعض بأن يتقيأ أفكاره على الورق -معتذرة لي وللقارئ عن هذا اللفظ إذ أصرت على وجوده في سياق الكلام- ودائما ما تخجل هي نيابة عن أصحاب الفكرة الرديئة والسمجة إذا عزموا على الكتابة، وتود لو أنها تشكل من ذاتها في منتصف الصفحة كلمة (كفّ) وتستحيل كفا حقيقية فتنهض عن الورقة لتصفع من هو قائم عليها يدون الهراء، لعله يفيق مما هو فيه ويعي قباحة ما يكتب وتفاهة ما فيه يفكر، ويبصر واقع أمره بعين العقل ليرى على وجوه العقلاء من الناس -ومن هم دون ذلك حتى- خجلا نيابة عنه مما هو جاء به، فيطرق رأسه ناقما على من جامله علانية مضمرا عنه صدق رأيه. ويعدل عما قاله معترفا آسفا تائبا عن ذنب إهانة الحروف، مُفرّجا عن همّها معه، وتاركا إياها لتجد طريقها إلى كاتب جديرة أفكاره بأن تفضى إلى الورق، فلا هي حين تُقرأ تُخجِلُ الكاتب والقارئ!

ومن المقالات أو النصوص ما قد يدان عليها كاتبها، كاشفا بغباء فادح عن ضحالة تفكيره، وخبث سريرته وسوء نيته، إن الحروف تفشي عن ذلك كله! وقد تستحي هي والورق والقلم والناس وتأخذه العزة بالإثم فلا يستحي مما كتبه فيرجع عنه!

وآخر ما أقوله نيابة عن الحروف أنه لو كان لها صوت نسمعه كما تخيلت -ولي خيال واسع قد يُسخَر منه- لكني أزعم أن هذا سيكون حديثها دون شك.

إن الصمت خير ومنجاة وستر في معظم الأحيان، فليس كل ما يرد على ذهنك لائقا للتفوّه به، وإن كنت ذكرت في مقال سابق عن ضرورة الاحتفاظ بالأفكار حتى تأخذ حقها من التأمل والتبصّر لتتغذى بها وتنمو فتبلغ مرحلة النضج السليم وتوضع فيما يناسبها من قالب، فأضيف الآن أيضا أن التمعّن في بعضها قد يبين لك فسادها، فيتضح أنه من سدادة الرأي التخلص منها، فما من ورائها منفعة، وقد تجر معها السوء والضرر، وهذا من فضائل التأني والتفكّر قبل التلفظ بأي قول، تحدثا كان أو كتابة.