الفردانية العقلانية وحقيقة الليبرالية
السبت - 29 يناير 2022
Sat - 29 Jan 2022
في ظل ما نعيشه من غبش قاتم محيط بنا وكأننا في نفق مظلم لا خلاص منه، تظهر في الأفق شمعة صغيرة لكن نورها يملأ المكان إشراقا وضياء؛ هذا ما تراءى لي ليلة البارحة وأنا أتحدث في مساحة «مبادرة فكر» الشبابية على تويتر، التي تشرفت بأن أكون ضيفها للحوار في أحد مقالاتي القديمة بهذه الصحيفة الموقرة، وكان بعنوان «الفردانية كارثة العصر». والواقع فإن سعادتي كانت بالغة لاهتمام الشباب بالموضوع الذي تحدثت عنه، ولعمق حديثهم وتعليقهم وبخاصة من المحاورين الشابين روان الزهراني وماجد بهكلي الذي ابتدأ الحوار بمقدمة فكرية مهمة.
في هذا اللقاء شددت على إيماني بالفردانية العقلانية، ومقتي بل وتحذيري من تسيد مفاهيم الفردانية الأنوية التي تجعل الفرد يتمحور حول ذاته، ليكون بمعزل عن محيطه الأسري والمجتمعي وصولا إلى الوطني. وهي الصيغة السلبية التي طغت على سياق المجتمع الغربي جراء تغلل الرأسمالية وتوحشها من جهة، ورغبة منظريها في تعزيز فلسفة حرية الفرد، والإعلاء المطلق لحقوقه الخاصة باعتبارها قيمة مستقلة يجب تحقيقها حتى لو اقتضى الأمر القفز على مختلف الاعتبارات، وهو ما عزز بعدئذ من مفاهيم المجتمع التعاقدي في مقابل ضمور المجتمع التراحمي وفق رؤية المفكر عبدالوهاب المسيري الذي شرح أبعادها في كتابه المهم «رحلتي الفكرية سيرة غير ذاتية غير موضوعية»؛ وكان من جراء ذلك أن أصبحت قيم السوق هي الحاكمة للعلاقات البينية في المجتمع، وهي المشكل لخلفية مختلف المشاعر الوجدانية بين أفراد الأسرة الواحدة، فكان أن تباعدت النفوس، وسارت الحياة بهم بعيدا تقطعهم أشلاء، وتفتت وحدتهم، ليبحثوا بعد ذلك عن الدفء في تربية الكلاب، مستعيضين بها عن مفقود تاه منهم دون وعي، وانفصل عنهم بمجرد بلوغه السن القانونية.
من هنا كان تحذيري من بلوغ هذا الحال في ظل ما نعيشه من تطور وتغول لمفاهيم السوق الاستهلاكية في حياتنا وبين أبنائنا بوجه خاص، التي من شأنها تعزيز مفاهيم السلوك الفردي، وتأكيد صفات الأنا البغيضة التي تسربت إلى الأذهان باسم تنمية الذات وتطوير القدرات، والأخطر حين يتم تمرير ذلك وفق مفهوم الليبرالية بشكل مطلق.
في هذا الإطار أشير إلى أني كنت ولا أزال مهتما بموضوع الليبرالية، بل وداعيا إلى سيادة مفاهيمها في الإطار المجتمعي، وكتبت مقالات متعددة في هذا السياق، وأحدها كان منذ ثلاثة عشر عاما في ملحق الرسالة الديني بجريدة «المدينة» بعنوان «الليبرالية الإسلامية الاسم الآخر لحركة التجديد الديني»، وأذكر في وقته أني قوبلت بعاصفة هوجاء من أولئك المتطرفين الذين قام مبدأهم على رفض وتبديع وتفسيق كل من يخالفهم بشكل مطلق، على أني كنت قد شددت في ذلك المقال وفي غيره بألا مشاحة في الاصطلاح بين مسمى «الحرية» أو «الليبرالية»، وأشرت إلى أن مفهوم الليبرالية منضبط بتلك القيم المجتمعية السائدة إن خيرا فخير، وإن سوءا فسوء، وأنه ليس لها علاقة بالمظهر أو بالجغرافيا وبالانتماء المذهبي والديني، فكم من شيخ معمم يفكر بذهن ليبرالي متحرر، وكم من أستاذ متفرنج في ملبسه ومظهره يحمل بين جوانحه فكرا تقليديا بسيطا، ولعل ذلك هو ما دعا الكاتب رفعت السعيد لأن يؤلف كتابا جميلا وسمه باسم «عمائم ليبرالية».
أشير إلى أن المصطلح الغربي Liberalism قد ظهر استجابة لدعوة علماء الأنوار الأوربيين لتحرير المجتمع من سلطة مفاهيم الكنيسة التي اختزل فيها رجال الدين الحقيقة، ليصبح قولهم هو الحق المطلق، ورأيهم هو المقصد الإلهي. وبالتالي فقد عمدت إلى إحراق وقتل كل من يخالف رأيها، وأخرجت من الملة المسيحية كل ما عارضها كفولتير وغيره.
من هنا كان منشأ الفكر الليبرالي المتحرر من سلطة الموروث الكنسي، ومن هنا كان الاشتقاق العربي لها مع بداية عصر النهضة العربية، حين دعا عدد من التنويريين العرب إلى التحرر من سلطة الموروث الفقهي المتزمت، داعين إلى فتح باب الاجتهاد الديني لمعالجة مسائل اجتماعية ودينية محكومة بظرفها وزمانها وطبيعة مجتمعها، ومؤيدين مرجعية الفقيه المعاصر المنطلق في اجتهاداته من ذهنية حاضرة مدركة لحيثيات الحكم الفقهي.
أختم بالتأكيد على أهمية الفردانية العقلية من حيث مسؤوليتها الأخلاقية ومرجعيتها الإبداعية في عمقنا الديني مصداقا لقوله تعالى {وكلهم آتيه يوم القيامة فردا}، وأؤكد على قيمة مفاهيم الحرية والاختيار في منظومتنا التشريعية، على أني أؤمن بأن كل ذلك يمكن أن يكون بمنأى عن إيذاء الآخر المختلف، وصدق الله القائل {وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا}.
zash113@
في هذا اللقاء شددت على إيماني بالفردانية العقلانية، ومقتي بل وتحذيري من تسيد مفاهيم الفردانية الأنوية التي تجعل الفرد يتمحور حول ذاته، ليكون بمعزل عن محيطه الأسري والمجتمعي وصولا إلى الوطني. وهي الصيغة السلبية التي طغت على سياق المجتمع الغربي جراء تغلل الرأسمالية وتوحشها من جهة، ورغبة منظريها في تعزيز فلسفة حرية الفرد، والإعلاء المطلق لحقوقه الخاصة باعتبارها قيمة مستقلة يجب تحقيقها حتى لو اقتضى الأمر القفز على مختلف الاعتبارات، وهو ما عزز بعدئذ من مفاهيم المجتمع التعاقدي في مقابل ضمور المجتمع التراحمي وفق رؤية المفكر عبدالوهاب المسيري الذي شرح أبعادها في كتابه المهم «رحلتي الفكرية سيرة غير ذاتية غير موضوعية»؛ وكان من جراء ذلك أن أصبحت قيم السوق هي الحاكمة للعلاقات البينية في المجتمع، وهي المشكل لخلفية مختلف المشاعر الوجدانية بين أفراد الأسرة الواحدة، فكان أن تباعدت النفوس، وسارت الحياة بهم بعيدا تقطعهم أشلاء، وتفتت وحدتهم، ليبحثوا بعد ذلك عن الدفء في تربية الكلاب، مستعيضين بها عن مفقود تاه منهم دون وعي، وانفصل عنهم بمجرد بلوغه السن القانونية.
من هنا كان تحذيري من بلوغ هذا الحال في ظل ما نعيشه من تطور وتغول لمفاهيم السوق الاستهلاكية في حياتنا وبين أبنائنا بوجه خاص، التي من شأنها تعزيز مفاهيم السلوك الفردي، وتأكيد صفات الأنا البغيضة التي تسربت إلى الأذهان باسم تنمية الذات وتطوير القدرات، والأخطر حين يتم تمرير ذلك وفق مفهوم الليبرالية بشكل مطلق.
في هذا الإطار أشير إلى أني كنت ولا أزال مهتما بموضوع الليبرالية، بل وداعيا إلى سيادة مفاهيمها في الإطار المجتمعي، وكتبت مقالات متعددة في هذا السياق، وأحدها كان منذ ثلاثة عشر عاما في ملحق الرسالة الديني بجريدة «المدينة» بعنوان «الليبرالية الإسلامية الاسم الآخر لحركة التجديد الديني»، وأذكر في وقته أني قوبلت بعاصفة هوجاء من أولئك المتطرفين الذين قام مبدأهم على رفض وتبديع وتفسيق كل من يخالفهم بشكل مطلق، على أني كنت قد شددت في ذلك المقال وفي غيره بألا مشاحة في الاصطلاح بين مسمى «الحرية» أو «الليبرالية»، وأشرت إلى أن مفهوم الليبرالية منضبط بتلك القيم المجتمعية السائدة إن خيرا فخير، وإن سوءا فسوء، وأنه ليس لها علاقة بالمظهر أو بالجغرافيا وبالانتماء المذهبي والديني، فكم من شيخ معمم يفكر بذهن ليبرالي متحرر، وكم من أستاذ متفرنج في ملبسه ومظهره يحمل بين جوانحه فكرا تقليديا بسيطا، ولعل ذلك هو ما دعا الكاتب رفعت السعيد لأن يؤلف كتابا جميلا وسمه باسم «عمائم ليبرالية».
أشير إلى أن المصطلح الغربي Liberalism قد ظهر استجابة لدعوة علماء الأنوار الأوربيين لتحرير المجتمع من سلطة مفاهيم الكنيسة التي اختزل فيها رجال الدين الحقيقة، ليصبح قولهم هو الحق المطلق، ورأيهم هو المقصد الإلهي. وبالتالي فقد عمدت إلى إحراق وقتل كل من يخالف رأيها، وأخرجت من الملة المسيحية كل ما عارضها كفولتير وغيره.
من هنا كان منشأ الفكر الليبرالي المتحرر من سلطة الموروث الكنسي، ومن هنا كان الاشتقاق العربي لها مع بداية عصر النهضة العربية، حين دعا عدد من التنويريين العرب إلى التحرر من سلطة الموروث الفقهي المتزمت، داعين إلى فتح باب الاجتهاد الديني لمعالجة مسائل اجتماعية ودينية محكومة بظرفها وزمانها وطبيعة مجتمعها، ومؤيدين مرجعية الفقيه المعاصر المنطلق في اجتهاداته من ذهنية حاضرة مدركة لحيثيات الحكم الفقهي.
أختم بالتأكيد على أهمية الفردانية العقلية من حيث مسؤوليتها الأخلاقية ومرجعيتها الإبداعية في عمقنا الديني مصداقا لقوله تعالى {وكلهم آتيه يوم القيامة فردا}، وأؤكد على قيمة مفاهيم الحرية والاختيار في منظومتنا التشريعية، على أني أؤمن بأن كل ذلك يمكن أن يكون بمنأى عن إيذاء الآخر المختلف، وصدق الله القائل {وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا}.
zash113@