هند علي الغامدي

اللغة الأنيقة

الاثنين - 17 يناير 2022

Mon - 17 Jan 2022

أرجوك دعها! رب كلمة تقول لصاحبها دعني!

تلك ليست الكلمة الأنيقة، الكلمة الأنيقة هي التي تحب أن تسمعها، هي التي لا تتوجع أياما وشهورا وسنينا حين تتذكرها، هي التي لا تتمنى أن تفقد ذاكرتك كي تنساها.

لا تقتصر تلك اللغة غير الأنيقة على اللغة الملفوظة؛ بل هناك لغة أخرى مصاحبة لها قد تكون أقوى منها بكثير، تلك اللغة التي قد يقول لك شخص بها حياك الله؛ فتفهم منها في الوقت نفسه أن لا حياك الله ولا بياك؛ لغة النظرات والإشارات وحركات الأيدي والجسد، ولغة العيون.

نحن حين نؤنب الآخرين وننتقدهم دون الانتباه إلى لغتنا نترك جرحا غائرا في الكرامة، اللغة غير الأنيقة هي التي تفعل ذلك، هي لغة لا تميز بين صغير وكبير، أو بين طالب علم وغيره، أو بين موقف وآخر، لغة لا تستهدف الفعل وإنما تستهدف صاحب الفعل، بكلمات كالسكاكين؛ تمزق قلبه، تحطمه، أثر اللغة لا يمكن أن ينسى، وليقف كل منا مع نفسه وقفة صادقة يراجع فيها ما استبقته ذاكرته القلبية والعقلية من تلك اللغة، وكيف يشعر حيالها الآن؟

أما اللغة الأنيقة فهي لغة من فضلك، لغة لو أذنت لي، لغة فضلا ولطفا وشكرا وعفوا، وعفا الله عنك، ورضي الله عنك، وجزاك الله خيرا، لغة الدعاء بالخير، لغة الحكم والأمثال والاستعارة والكناية والمجاز التي تواري بها القبيح وتظهر بها الجميل، لغة لكلِّ مقام مقال، اللغة الأنيقة تظل تنهل منها وكأنك على نهر جار لا ينضب.

اللغة الأنيقة لا همز فيها ولا لمز ولا نبز، ولا سخرية ولا استهزاء، ولا كلام بذيء، ولا لغة جسد مواكبة لذلك كله.

يتفنن البعض في عبارات الاستهزاء والسخرية والكلمات التي تعكس فضاء داخليا يفتقر إلى الأناقة، ولكن الأمر يعظم إذا كان صاحب اللغة معلما أو أستاذا أو مربيا يتخرج على يديه بناة الأسر، بناة الوطن، بناة الحياة، مربو الأجيال، ومن سيتخرج على أيديهم تباعا من المعلمين والمهندسين والأطباء والعاملين في كل مرافق الوطن، هل فكرنا يوما في أثر التربية غير الأنيقة والتي في مجملها تعتمد على التواصل الذي يعتمد بدوره على اللغة اللفظية وغير اللفظية؟ كيف سيكون أثر هذه القدوة؟! سيندم يوما كل مسيء ولكن هل ينفع الندم؟ أرجوكم أيها المعلمون والمربون والآباء والأمهات اختاروا الأناقة وتنبهوا إلى ما تصنعه لغتكم.

في حياة كل منا مجموعة من الكلمات التي حفظتها الذاكرة الشفوية أو الكتابية على مر الزمان يسترجعها؛ فتنعش جوانب من ذاكرته، وتضيء بعض حنايا قلبه، وتطرب مسامعه كأنها قيلت الآن، وتكحل عينيه كأنها كتبت الآن، ليست الكلمات حين تفعل ذلك كلمات؛ بل هي أفعال، الكلمات التي تحيي النفوس وتبعث فيها الأمل أفعال حقيقية، تجد نفسك بعد سنوات طويلة تتذكرها فتبتسم لا شعوريا، وقد تكون لم تبتسم منذ أيام أو أكثر ابتسامة حقيقية تسعد بها روحك، وبكل أسف العكس صحيح أيضا، أفلا تعدُّ اللغة بكلِّ أشكالها فعلا إذًا!؟ والأناقة فعل وأي فعل!؟ فعل الدين والعلم والحضارة والرقي، واللغة هي نقطة الالتقاء في ذلك كله.

بشيء من التجاوز يمكن أن يقال إنّ كل اختيارات الإنسان في مظهره أو كلامه، أو لغة جسده أو صمته، أو حتى في طريقة أكله وشربه، وطريقة أدائه لكل أنشطته، هي لغة يختارها ويمارسها بشكل أو بآخر؛ يصلنا من خلالها رسالة ما، والحديث في ذلك يطول، لكننا اليوم نتحدث عن أناقة اللغة الإنسانية الملفوظة وغير الملفوظة؛ ذلك أن الإنسان يمكن أن يكون أنيق المظهر وهذا رصيده من الأناقة فحسب، وهذا بقدر ما يريح العين في الوهلة الأولى بقدر ما يخيب الآمال، ويهز الثقة في المتأنقين، بل ويعمي العين عن تلك الأناقة؛ ذلك أن الأناقة الحقة هي أناقة اللغة التي تنعكس على المظهر، وتجعلك تتقبل ما كان يمكن التنبؤ بصعوبة تقبله؛ بل وتغيير ما كان يعد تغييره من المستحيلات، ولذلك شبه الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعض البيان بالسحر، لأن له أثر السحر في استمالة القلوب وتحقيق المراد.

من منا لا يأسره الجمال ولا تدهشه الأناقة؟ من يستطيع أن يتحرر من سحر الكلمة الأنيقة؟ كلنا أسرى الكلمات التي نقولها والتي نسمعها؛ فالأولى تأخذنا إلى أحد طريقين؛ نسأل الله الأول منهما، ونعوذ بالله من الثاني، والثانية قد تحيينا حين تتشح بالأناقة، وقد تتجرد منها فتضعنا في خيارات صعبة؛ فقد نرد عليها فنخسر أنفسنا، أو نحتفظ بها في جزء معتم من الذاكرة فتسممه، وربما نتجاوزها إلى أناقة الرد السلمي ﴿وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما﴾، أو أناقة التجاهل والصمت «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت».

لا يكفي أن تكون أنيق المظهر؛ فهذا قد يمتع العين للحظات، وقد يعطي انطباعا جيدا، فأناقتك الحقيقية في لغتك التي تتحدث عنك وتتواصل باسمك مع العالم الداخلي والخارجي، سواءً أكانت لغتك المنطوقة أم غير المنطوقة، فكم من الأشخاص حين يتحدثون تخال أنهم يسددون ضربات قاصمة إلى قلب اللغة حتى تناشدهم وتتوسل إليهم أن يرحموها، لكنهم -مع الأسف- لا يمتلكون الأناقة التي تؤهلهم لذلك.

اللغة الأنيقة كلمة طيبة أو نظرة حانية تمسح عن كواهلنا تعب الحياة وألم إحباطاتها، كم من كلمة كانت دواء، مرّ علينا أن يذهب أحدنا إلى الطبيب وهو في غاية التعب؛ فيلاطفه الطبيب ويهوِّن عليه بكلمات بسيطة، ويعطيه من لغة الجسد ما يجعله يخرج من عنده سعيدا مبتهجا حتى لكأنه شفي، وما شفي، ولكنها اللغة الأنيقة.

اللغة الأنيقة هي التي توصل إليك المضمون مهما كان قاسيا بأناقة ورقي دون أن تصدمك أو تخدش مشاعرك، أو تشعرك بالإهانة والإذلال.

نهتم كثيرا بأناقتنا الظاهرة وجودة ما نقتنيه وجمال ما نرتديه وانتمائه إلى أبرز دور الأزياء في العالم، ونغفل العمل على لغتنا وكيف نجعلها على الأقل مناسبة لمظهرنا، وننسى أن الآخرين لن يتذكروا «الماركات» التي نرتديها ونتزين بها، ولا جودتها، ولكنهم حتما يتذكرون لغتنا التي تحدثنا بها معهم بكل أشكالها، فلينظر كل منا إلى ما يريد أن تصنعه لغته، والأثر الذي ستتركه، وليعد العدة.

hindali1000@