عبدالحليم البراك

مفسدو التاريخ!

الاثنين - 17 يناير 2022

Mon - 17 Jan 2022

يمكن القول بكل ثقة، يمكن لكل شيء أن يفسد التاريخ، حتى أنه يمكن القول بأن تحقيق الوقائع التاريخية يصل لدرجة المستحيل في ظل سمة التحيز الإنساني المستمرة، عموما التاريخ واقع حدث اكتسب صفة الماضي باعتباره حدثا وانتهى، وأن كل ما على الخلف من الناس هو نقل هذا التاريخ، وما يحدث خلال هذا النقل (بكل أدواته المتعددة) يتعرض للتشويه والكذب والاختلاق والتأليف والنسيان والطمر والتوظيف والتزييف والضياع، حتى يمكن القول لبعض الحوادث التاريخية إنها تكاد لم تحدث، أو إن ما حدث لحظتها لا يمت لتاريخها المكتوب أو المنقول على الأقل بأي علاقة.

وإذا قلنا إن كل شيء يمكن له أن يفسد التاريخ، فهذا صحيح، ابتداء من العلم الفيزيائي الذي يخطئ ويصيب، ومرورا بأول المفسدات هو الزمن، فإن الزمن بحد ذاته مفسد للتاريخ، إذ إن مرور الوقت بحد ذاته كفيل بتغيير أشياء كثيرة في الحوادث التاريخية، فما كان مهما في تلك اللحظة الزمنية لم يعد كذلك، وفقد أهميته وقيمته بفعل الزمن وحده، وبذلك صار الزمن أحد العابثين بالتاريخ، ويتبع الزمن المكان كذلك؛ فالمكان ولمجرد هجرة عنه أو منه، يصبح مشوها آخر للتاريخ، فالأرض التي كانت مستوطنا خصبا لقوم من الأقوام، صارت الآن قفرا فلم تكن أهمية المكان بأهمية اكتشاف روحه الجديدة، والعكس مضطرد أيضا!

أما الإنسان فهو المشوه الرئيس للتاريخ، فكل ما كان يفعله الإنسان في الماضي والحاضر إلا نقل غير أمين للتاريخ، فابتداء من الرواة والحكواتية، وناقلي الأخبار العتيقة المجردة، وهم ينقلون بطريقة انتقائية وحسب السماع، وحسب الخوف والرغبة وأيضا الإثارة، وحسب الأوضاع السياسية والاقتصادية وأهواء الناس الجديدة.

بل إن اختراعات الإنسان الجديدة، كالأفلام والمسلسلات والإعلام عبثت هي الأخرى بالتاريخ، فقوة الإعلام وإثارة وصناعة السينما لا ترضى بنقل الحقيقة بل تأخذ باعتبارها أشياء أخرى لا علاقة لها بالحقيقة، مثل الإثارة والجذب والتسويق وضرورة السيناريو والتحويل من حدث سردي إلى حدث ديناميكي، ولا ينجو جهل السيناريست والمؤلفين والمعدين والمخرجين من تهمة العبث بالتاريخ لما يملكونه من قوة إعادة العمل!

كما ثمة مفسد آخر للتاريخ لا يتركه أحد، وهو الجهل والجهلة، فالجهلاء إن وكل لهم إعادة تلاوة التاريخ؛ رأيت جهلهم وضيق أفقهم وروحهم الأرضية الدنية تحيط بالوصف الذي يصفون به التاريخ والحدث بدون أدنى بعد، فيثنون على هتلر ليس لأي سبب منطقي عقلاني مقنع في بلده إلا لمنطق القوة الجبارة، أو بل لأنه عادى اليهود في البلاد الكارهة لليهود حتى تصبح هذه الشخصية رمزية، وهي التي دمرت العالم كله في سنوات معدودة لها من يحاول أن يكتب تاريخها بشكل مزيف، ولو قدر لهتلر نفسه أن يعود لأحرق هؤلاء قبل غيرهم.

لم نتكلم عن كتب التاريخ أو أصحاب الأهداف المباشرة في إفساد التاريخ لأن هذا أوضح من أن يكتب، لكن تبقى العبرة في هذه الكلمات في أن الحقيقة التاريخية ستبقى نسبية، وأن قبول التفسيرات فيها أمر منطقي لأي سبب، وأن التعصب لحدث تاريخي يبدو ساذجا لأن التاريخ مر على أدوات كثيرة عبثت به حتى وصل بصورة –ربما– لا تشبه الصورة الأصل التي حدث فيها!