مرزوق بن تنباك

الرائد الذي لا يطيعه الناس

الثلاثاء - 11 يناير 2022

Tue - 11 Jan 2022

تضيق صدور أكثر الناس إن لم يكن جميعهم عمن يختلف معهم في الرأي والمواقف، وقل من يرحب بوجهة النظر الأخرى أو يرتاح لما يقول المخالفون لرأيه أو وجهة نظره خصوصا أهل الثقافة العربية والإسلامية، رغم ما في ثقافتهم من أدبيات تحث على سماع الرأي المخالف ومناقشته وتقبله أو الرد عليه، وليس أشهرها وأكثرها ترددا على ألسنتهم من الأيقونة المتكررة في كل أمر جدلي (الخلاف لا يفسد للود قضية) وأختها (اختلاف أمتي رحمة)، وهو قول منسوب للنبي عليه الصلاة والسلام والحديث غير صحيح فيما يقول أهل العلم بالحديث.ومع هذه الأقوال التي يحاول المختلفون تطييب النفوس بها عند الجدل فليس في واقع الحال أشد عداوة وبغضاء مما يجلبه الخلاف بين المختلفين، وحسبك لعلم ذلك ما تقرؤه في صحائف التاريخ العربي والبشري مما يحدث المختلفون من عداوات وحروب وقطع صلات وتفريق جماعات، وليس أثر الخلاف خاصا بالثقافة العربية ولكنه عام في كل خلاف يقع بين الناس.

وأنواع الخلاف ومواضيعه كثيرة لا يحصرها عد لكن أخطرها الخلاف الفكري والثقافي بين المثقفين الذين يفترض فيهم القدرة على قبول الرأي المخالف والتسامح مع وجهات النظر، حيث إنه مستحيل أن يكون الاتفاق على رأي واحد أو الرد عليه وبيان وجهة النظر الأخرى ممكنا.

والناس لا يحتملون سبق المثقف والمفكر الأصيل وريادته البعيدة عن حاضرهم الراكد فيقيسون المسافة بين ما يريد الفيلسوف وما يدعو إليه وبين الواقع الراكد الذي يعيشون فيه، كان أول من واجه الموت في سبيل أفكاره سقراط حين لم تحتمل أثينا سبقه وواقعيته والمسافة الفاصلة بينهم وبينه فطالبته بالتخلي عن الفلسفة أو الموت فقال «هل ينسحب الجنود من المعركة عندما يبدو لهم أنهم سيقتلون فيها».

كان سقراط في نقده لمجتمع أثينا يحاول أن تقوم فلسفته بعمل ذبابة الخيل من أجل أثينا لتتحرك وتعمل شيئا بعد الهزائم المنكرة أمام أسبرطة، فكان جزاؤه السم حتى لا تفسد فلسفته هدوء أثينا وجدلها المحتدم بينما تقترب جيوش أسبرطة منها وتدك حصونها.

ضحى سقراط بحياته من أجل آرائه ومعتقداته مع أنه أتيح له النجاة بالهرب من السجن أو الرجوع عما اتهم به. وبعده جاءت قائمة طويلة لا تحصى من المفكرين والمصلحين الذين كانت أفكارهم سبب سمهم وقتلهم والخلاص منهم، سقراط أولهم ولن يكون أخرهم فرج فودة من مصر ولا محمود محمد طه من السودان.

ذهب سقراط وبقيت آراؤه وفلسفته تعيش عليها الأمم والشعوب وتدرسها الأجيال، بينما ذهب الذين حاكموه وأجبروه على تجرع السم إلى دائرة النسيان الواسعة، الرائد الأول في كل الحالات وفي الفكر خاصة لا يمكن أن يرضى عنه الناس لأن عقولهم تقف عند مرحلة تجاوزها المفكر برؤيته وريادته وتطلعه لمستقبل لا يستوعبه المعارضون له ولا يرون ما يراه من علل في بنية مجتمعه أو طموح يريده لمستقبل الأجيال التي تأتي بعده، كل المصلحين الذين يعيش الناس على أفكارهم اليوم في كل الثقافات والمجتمعات عاشوا صراعا طويلا مع ثوابت مجتمعاتهم الراسخة وعاداتهم المقدسة ومع الذين عدوا رأي المفكر والفيلسوف اختراقا لحاضرهم وكفرا بماضيهم الذي ينامون ويستيقظون على تمجيده والتغني بحسناته إن كان ثمة حسنات فيه.

الأجيال التالية هي التي ترد الاعتبار للمفكر والفيلسوف والرائد وتعترف بفضله وكفاحه من أجلهم لا من أجل الجيل الذي وجد فيه وكفر بوجوده وأنكر جهوده وتلك سنة الحياة وطبيعتها ولله في خلقه شؤون وفنون والدنيا صراع والبقاء للأصلح.

Mtenback@