أحمد محمد الألمعي

تاريخ الأوبئة والجائحات

الثلاثاء - 11 يناير 2022

Tue - 11 Jan 2022

أعادت جائحة كورونا إلى الأذهان تاريخ الأوبئة في العالم والتجارب السابقة التي مرت بها الأمم وما حدث وقتها. وددت هنا أن أسلط الضوء على هذا التاريخ لعلنا نستفيد منه بعض العبر والدروس للتعامل مع الجائحة الحالية. وبداية فإن تعريف الوباء «هو المرض الذي يصيب العديد من الأشخاص في نفس الوقت بشكل سريع، وينتقل من شخص لآخر في مكان لا ينتشر فيه المرض بشكل دائم» وعلى الرغم من التطور التكنولوجي الهائل والأبحاث العلمية المتعددة في مجال الطب وصحة المجتمع، إلّا أنّ احتمال انتشار الأوبئة والجائحات لا يزال هو التحدي الأصعب والأخطر في عصرنا الحديث.

فيعد النمو السكاني في العالم، وزيادة المناطق الحضرية المكتظة بالسكان، وتغير المناخ، والعولمة أسباب مثالية لحدوث الجائحات والأوبئة، ولهذا فإن تطوّر مسبّبات المرض تتطلب أيضا الاستمرار في الأبحاث لتطوير علاجات ولقاحات فعّالة لوقف انتشاره. إضافة إلى ذلك، فإن التقدّم الهائل والسريع في وسائل النقل المختلفة وسهولتها يؤدي أيضا إلى السرعة في انتشار الأوبئة والجائحات في حال حدوثها، وعلى مر التاريخ، واجهت المجتمعات الإنسانية العديد من الأوبئة والجائحات التي أثرت في بناء الكثير من الحضارات البشرية المختلفة، وكان لهذه الأوبئة والجائحات آثار متعددة، وخلالها محت حضارات بأكملها وأزهقت أرواح ملايين من البشر وأوقفت التنمية الاقتصادية واستنزفت ثروات طائلة لمواجهتها، وشكلت أيضا تحديا كبيرا لقدرات وإمكانات الحضارات العلمية والبشرية.

وكانت هذه الأوبئة قد أسست لتحولات كبيرة في العالم منها نزيف ديموغرافي، وانهيارات اقتصادية وقلاقل سياسية واجتماعية وانتصارات وهزائم، وأدت إلى أفول وصعود حضارات، وغيرت بعدها هذه الأوبئة مسار التاريخ وخريطة العالم. وقد ذكر في الكتب الدينية قصص عن انتشار الأوبئة في مصر في أزمنة مختلفة؛ فقد ذكر في كتاب العهد القديم في سفر الخروج عشر سلاسل من الأوبئة التي وصفت بالطاعون قبل فترة سجن فرعون لبني إسرائيل في مصر منها القمل، الدمل، الطفيليات ومرض الماشية، كما ورد أيضا ذكر نفس القصة في القرآن الكريم في سورة الأعراف.

منذ العصور القديمة، عرفت البشرية ظهور العديد من الأوبئة والجائحات والتي انتشرت بسبب التنقل، الحركات التجارية والحملات العسكرية، حيث ينقل الأفراد المصابون بهذه الأمراض العدوى إلى آخرين أصحاء ومتسببين بذلك في تفاقم الأزمة، وكان القدماء كثيرا ما يسمون هذه الأوبئة مجازا بالطاعون وذلك بسبب سرعة انتشار هذه الأوبئة، إضافة إلى هلاك الكثير من البشر خلالها.

سرد موجز لأهم الجائحات والأوبئة عبر التاريخ:

أقدم جائحة عرفت في التاريخ ذكرت في تقرير مترجم في مجلة علوم الآثار الصينية، حيث اكتشف العلماء موقع يعود إلى فترة ما قبل التاريخ ويبلغ من العمر 5000 عام يسمى موقع هامين مانغا الأثري Hamin Mangha الموجود في شمال شرق الصين.

- طاعون أثينا: وسمي بهذا الاسم؛ لأنه ظهر في أثينا وقتل ربع سكانها وربع الجيش الأثيني خلال أربعة أعوام خلال الفترة بين 426 حتى 430 قبل الميلاد حسب التاريخ المدون أثناء الحرب البيلوبونيسية، وانتشر المرض بشكل سريع جدا وحصد أرواح خمسة ملايين إنسان. ويعتقد أن المرض بدأ في إثيوبيا ومنه انتقل إلى مصر ومن ثم إلى اليونان ووصفت أعراض المرض على أنه صداع، التهاب ملتحمة العين، طفح جلدي، حمى، سعال مصحوب بالدم، آلام في البطن مع قيء.

وفي عام 2006 تمكنت الباحثة مانوليس باباجريكوراكيس Manolis Papagrigorakis مع فريقها البحثي في جامعة أثينا من تحديد نوع المرض من خلال دراسة وتحليل ثلاثة أسنان وجدت سليمة في ثلاثة جثث في مقبرة جماعية اكتشفت هناك في عام 1994 واكتشف العلماء أن المرض كان في الواقع البكتيريا المسببة لحمى التيفوئيد.

- الطاعون الأنطوني: سمي بهذا الاسم لحدوثه أثناء فترة حكم السلالة الأنطونية في العهد الروماني وظهر المرض بين الأعوام 165 و190 بعد الميلاد. ويعتقد العلماء أن الجائحة ربما تكون أما مرض الجدري أو الحصبة. وتسبب هذا المرض في تدمير الجيش الروماني وتشير المصادر التاريخية أن المرض انتقل للجيش الروماني أثناء غزوهم للعراق ومصر مما تسبب في وفاة خمسة ملايين شخص وتفشي المرض مرة أخرى في عامي 215 و266 بعد الميلاد.

- طاعون قبرصيان: وسمي نسبة لقبرصيان أسقف قرطاج في تونس والذي اعتقد أن هذا الوباء هو نهاية العالم وظهر في الفترة بين 249 و262 ميلادية وقتل حوالي 5000 شخص في روما وحدها.

- طاعون عمواس انتشر هذا الطاعون في مناطق الفتوحات الإسلامية في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في سنة 639 ميلادية. ظهر هذا الطاعون في بلدة عمواس بالقرب من القدس وسمي باسمها ومنها انتقل إلى مختلف مناطق الشام وتوفي خلال هذا الوباء ثلاثون ألفا بينهم عدد كبير من صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منهم أبو عبيدة عامر بن الجراح ومعاذ بن جبل وابنه عبد الرحمن وشرحبيل بن حسنة والفضل بن العباس بن عبدالمطب ويزيد بن معاوية، ذكرت كتب التاريخ أن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب -رضي الله- عنه تعامل مع هذا الوباء في منتهى الحذر فلم يدخل إلى بلاد الشام ومنها استنبط الفقهاء عدم الدخول والخروج من الأرض الموبوءة.

- طاعون جستنيان: ظهر هذا الوباء ما بين 541 و750 وسمي بالطاعون الدملي. يعتقد بأنه كان نتيجة تكاثر الفئران والبراغيث على السفن التجارية، وظهر أولا في إثيوبيا وأيضا منها إلى مصر ثم انتقل إلى مدن ساحل البحر الأبيض المتوسط ويعتقد آخرون أنه بدأ في سهول وسط آسيا ثم انتقل عبر خطوط القوافل التجارية إلى أوروبا. كما حمل الجنود العائدون من الحملات العسكرية البيزنطية المرض إلى روما ومنها إلى بقية مدن غوروبا الغربية. تبدأ أعراض المرض بحمى وإرهاق وبعدها بمدة قصيرة يظهر الدمل في منطقتي الفخذ أو الإبطين أو بجانب الأذنين ومنها ينتشر المرض في الجسم بسرعة كبيرة مما يؤدي إلى الوفاة وقضى الطاعون على ما يقرب من 50% من السكان.

- الطاعون الأسود: الطاعون الدملي البكتيري من النوع Yersinia Pestis وكان وباء عالميا ظهر في الصين عام 1334 ووصل إلى أوروبا عام 1347-1351 بواسطة القوافل التجارية التي أتت عن طريق الحرير، وقضى هذا الوباء على نحو 60% من سكان أوروبا ونحو 150 مليون شخص في العالم وضربت موجات الطاعون الأسود القارة الأوروبية في أماكن استمرت حتى القرن الثامن عشر الميلادي.

- الطاعون الدملي الثالث الكبير: ظهر هذا الوباء مرة أخرى عن طريق الفئران البرية في منطقة نائية من الصين في مقاطعة يونان عام 1855 ومن هناك انتقل المرض على طريق القصدير والأفيون ووصل إلى عاصمة المقاطعة كونمينغ في عام 1866، ومنها استمر المرض في الانتشار في الصين وهونج كونج وفيها اكتشف العالم إلكسندر يرسن Alexandre Yersin وكذلك العالم كيتاستو شيبسابورو Kitasato Shibasaburo البكتيريا المسببة للطاعون في عام 1894 ومنها سميت البكتيريا باسم هذا العالم Yersinia ومنه انتقل إلى بومباي في الهند عام 1896 ومنها انتقل المرض إلى كراتشي، وفي عام 1898 اكتشف العالم بول لويس سايمون Paul-Louis Simond أن الجرذان البنية هي الحاضنة الأولية للمرض وأن برغوث الفئران هو الناقل المسبب للمرض.

- الجدري: ويعد أكثر الأوبئة التي انتشرت في العالم منذ آلاف السنين ويعتقد أنه ظهر في عهد الإمبراطورية المصرية منذ ثلاثة آلاف عام، وتم اكتشاف آثار طفح جلدي يشابه طفح الجدري في ثلاث مومياوات مصرية، ووجد أقدم وصف للمرض في أدبيات الصين في القرن الرابع الميلادي. وظهر وباء الجدري بعدها كوباء عالمي في مختلف العصور والأمكنة قتل خلالها ملايين الأشخاص عبر التاريخ، حيث كان يموت ثلاثة أشخاص من بين عشرة يصابون بالمرض واستمر المرض بحصد أرواح البشر حتى نهاية القرن السابع عشر، عندما بدأت تجارب التلقيح ضد الوباء على يد الطبيب الانجليزي إدوارد جنير Edward Jenner عندما لاحظ أن الحلابات اللاتي أصبن بجدري الأبقار لم تظهر عليهن أعراض الجدري، وأثبت ذلك بالتجربة عندما لقح يد جيمس فيلبس ذو التسعة أعوام من قرحة أحد الحلابات المصابة بجدري البقر، ثم عرض بعدها الطفل عدة مرات لمصابين بالجدري ولم تظهر لديه أية أعراض وكانت هذه التجربة العظيمة مفتاح اللقاحات ضد الجدري والتي تكللت بالقضاء عليه نهائيا في السنوات الأخيرة.

الكوليرا: يعتقد أن وصف المرض وفقا للأدلة التاريخية عند اليونانيين القدماء في القرن الخامس والرابع قبل الميلاد، وأول من وصف أعراض المرض المؤرخ البرتغالي جاسبر كوريا Gaspar Correa في الهند عام 1543. وانتشر وباء الكوليرا في العالم بشكل كبير منذ بدايات القرن التاسع عشر على شكل ست موجات بين عامي 1817- 1860 بعدما كان محصورا قبلها في شبه القارة الهندية وظهر الوباء الأول بين عامي 1817- 1824 في شبه القارة الهندية وانتقل بعدها الى الدول المجاورة وتجاوز عدد الوفيات في الهند 15 مليون شخص، وانتشر بعدها في أنحاء عديدة من العالم وقد أدى ذلك إلى وفاة ما يقارب 23 مليون شخص حول العالم. وظهر الوباء مجددا في موجته السابعة عام 1961 في إندونيسيا وانتشر بعدها في جنوب شرق آسيا، وفي بداية السبعينات انتقل المرض إلى بلدان الشرق الأوسط والخليج العربي وبعدها ظهر في العديد من دول أفريقيا وأصاب أكثر من 140000 شخص. استمرت بؤر التفشي في الظهور في العديد من دول العالم ومنها بيرو في العام 1991 وأدى ذلك إلى وفاة 3000 شخص وتفشى الكوليرا بعدها في العديد من دول أمريكا اللاتينية وأمريكا الوسطى.

- الإنفلونزا الإسبانية: ويعرف بإنفلونزا فيروس H1N1 واكتسب هذا الاسم لأن الإعلام الإسباني هو من سلط الضوء على هذه الجائحة ولم تكن إسبانيا هي مصدر الفيروس ومنها ربط الناس بين إسبانيا والمرض. بدأت هذه الجائحة في نهايات الحرب العالمية الأولى تزامنا مع بداية تخصصات الطب الحديث مثل تخصص الأمراض المعدية ودراسات علم الأوبئة الحديثة وظهرت الحالات الأولى في معسكر للجيش الأمريكي في منطقة فورت رايلي fort Riley في ولاية كنساس الأمريكية في مارس 1918 عندما اشتكى أكثر من مئة عسكري من أعراض الرشح والزكام في يوم واحد وتضاعف العدد بسرعة شديدة بعدها ليبدأ الانتشار في الولايات المتحدة، وأوروبا وآسيا. وعزي السبب في انتشار الفيروس على الحرب العالمية الدائرة رحاها آنذاك حيث انتشر الوباء بين الجنود خاصة في الأماكن المكتظة والملوثة والرطبة واستمرت هذه الجائحة على شكل موجات متتابعة حتى الموجة الرابعة والتي انحسرت في مارس 1920، حيث ظهرت آخر إصابة بالمرض. ويقدر أن المرض أصاب أكثر من 500 مليون شخص حول العالم ويقدر عدد ضحايا هذا الفيروس ما بين 17 مليونا و50 مليون شخص أي أنه قتل ما يقرب من 10% من المصابين مما يجعل الإنفلونزا الإسبانية من أكثر الجوائح فتكا في تاريخ البشرية، وعرف أيضا عن هذا الفيروس أنه قتل نسبة كبيرة من الأطفال والعجزة إضافة إلى نسبة كبيرة من الشباب الأصحاء. الجدير بالذكر، أنه طرحت نظرية عن سبب تفشي الإنفلونزا الإسبانية وربط ظهور المرض بهجرة 9600 من المزارعين الصينيين إلى كندا في عامي 1917 و1918 وكانوا قد أتوا من بعض المناطق النائية في الصين وكان متزامنا مع انتشار التهاب رئوي في المناطق التي جاؤوا منها وانتقل بعدها المرض إلى بقية المدن في كندا وأمريكا الشمالية.

وفي شبه الجزيرة العربية والخليج كان هناك عدد من الأوبئة التي أصابت المنطقة خلال الـ150 سنة الماضية منها:

- داء الصفراء: وحدث عام 1904 وأطلق عليه سنة موت الشيوخ وانتشرت في نجد والخليج العربي. لم يعرف بالضبط سبب المرض ولكنه قد يكون الملاريا أو الالتهاب الكبدي الوبائي.

- الطاعون: انتشر بشكل كبير في مطلع القرن العشرين في البحرين ودول الخليج والساحل الشرقي للمملكة أعوام 1903 و1907 و1925، وسمى أهل المنطقة تلك السنوات بسنوات الرحمة لكثرة الترحم على الموتى، ونشرت مستشفى الإرسالية الأمريكية أحد الوثائق التي أشارت أن الطاعون قتل ما يقرب من 9690 شخص في البحرين وحدها.

- الحصبة: وتوافق سنة 1912 وسميت بسنة الحصبة وانتشر المرض في الساحل الشرقي ونجد والحجاز خلال تلك الفترة خاصة الأطفال وتوفى من المرض الآلاف واستمر تفشي المرض لعدة أعوام.

- الإنفلونزا الألمانية: ظهرت في الجزيرة العربية في عام 1918 واجتاحت شتى أراضي الجزيرة العربية بما فيها نجد والحجاز، وسميت بسنوات الصخونة بسبب ارتفاع حرارة المريض المصاب وسنة الرحمة لكثرة الترحم على الموتى من هذه الجائحة. وتقول المصادر التاريخية أن الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود رحمه الله قد فقد خلالها ابنه البكر تركي وكانت وفاته في الأسبوع الثالث من شهر ديسمبر 1918 وزوجته جوهرة بنت مساعد بسبب الإنفلونزا الألمانية. وقيل إنه مات خلق كثير قدر بالآلاف وبسببه هجرت المساجد وخلت بيوت من السكان بلغت الألف في بريدة والألف في عنيزة.

- الجدري: وتفشي عام 1939 وسمي عام الجدري، يذكر أن هذا الوباء اجتاح جميع مدن المملكة بدأ من الساحل الشرقي مرورا بنجد والحجاز غربا.

- الملاريا: انتشرت الملاريا في مناطق متعددة من المملكة بما فيه الساحل الشرقي، وكان للطب الوقائي في أرامكو السعودية في أربعينيات القرن الماضي في المنطقة الشرقية بقيادة الدكتور تي سي ألكسندر دور محوري في القضاء على الملاريا في المنطقة الشرقية والأحساء، وشملت الحملة زيارات ميدانية وتثقيفية للأهالي لمواجهة الملاريا وتم رش المبيدات لقتل البعوض ونقل أسماك الجامبوسيا Mosquito fish (Gambusia affinis) والتي تتغذى على يرقات البعوض إلى مياه البرك الراكدة في المنطقة حتى تم القضاء عليه تماما عام 195.

- الكوليرا: انتشر وباء الكوليرا في الجزيرة في أوائل السبعينيات على الساحل الشرقي من المملكة العربية السعودية وأدى ذلك آنذاك إلى عزل مناطق معينة انتشر فيها الوباء عن باقي مدن المنطقة الشرقية. نسأل الله أن يقينا ويقي بلاد المسلمين شر هذه الأوبئة.

almaiahmad2@