عبدالحليم البراك

فضيلة التفاصيل!

الاثنين - 10 يناير 2022

Mon - 10 Jan 2022

يمكن اختصار فضل التفاصيل في كلمة واحدة بأنها هي المميز بين الرديء والجيد، ويمكنك أن تلاحظ هذا في كل شيء وأي شيء، ولأن تبسيط الأشياء هواية محببة، ستجد أن الموظف الكفء هو الذي يقنع مديره بأنه يهتم بالتفصيل، فيهتم بالحضور المبكر، برغم أن الفارق بينه وبين غيره ممن يتأخر لا يكاد يتجاوز الدقائق المعدودة، وأن عمله يكاد يتشابه مع غيره، لولا اهتمامه بأداء تفاصيل عمله ومعاملاته، أما علاقاته، فإنه يهتم بالتفاصيل التي تمنعه من أن يخطئ في لفظ أو كلمة فيصبح هو السيد الخلوق وغيره ليس كذلك، والفارق بينه وبين غيره إما صبر وحكمة أو فقط كلمة طيبة، ويمكن أن نرفع مستوى الأمثلة في الاهتمام بالتفاصيل، فيمر أحدنا بمنظر جميل في سفر لطيف له، فيرى أشجارا وربما نهرا وأرضا خضراء، يعجبه المنظر وقد يتوقف عنده بضع دقائق فيحفر في ذاكرته شعورا جميلا لكنه يختلف تماما عن الرسام الذي قد يتوقف عدة ساعات لأنه اهتم بالتفصيل، فاهتم بألوان أوراق الأشجار فلم تكن تلك الأوراق على لون واحدة بل بعضها أخضر فاتح وأخضر داكن، وبينهما تدرج ألوان بديع، وربما كسر اللون الأخضر ألوانا خريفية أخرى، أضف إلى ذلك أن أشكال الأوراق مختلفة، وكثافتها على كل شجرة مختلفة عن الأخرى، ومستوى ارتفاعها عن الأرض ليس متشابها، حتى الأغصان لا تتشابه في تشابكها وتوزيعها، ولا تتشابه سيقان الأشجار في أشكالها واستدارتها وألوانها، والماء ليس على درجة واحدة من الجريان، وحواف النهر لها تفاصيل لا يراها إلا محبو التفاصيل، أما السماء مع هذا المشهد البديع فلها شكل آخر، حتى الناس حول هذا المشهد لهم تفاصيل أخرى، وهذا ما جعل الأول مجرد عابر معجب، والآخر فنانا يهتم بالتفاصيل.

حتى الصحراء يقال إنها فقيرة فنيا، وقد يقول هذا عابرو التفاصيل، أما الغارقون فيها فلا يرون فيها إلا غنى بديعا هي الأخرى، فليس مثل الرمل كالذهب الملقى على الرمال، ولا الظل في استدارته حول كثب الرمل إلا سحر الرمادي، ولا تلك الأشجار والشجيرات التي قاومت الحر والبرد معا وصارت مثل بدو الصحراء في هذه الأرض القاحلة إلا نموذجا آخر لكائن حي عظيم له صفات عظيمة أخرى وهكذا تستمر التفاصيل!

وعلى مستوى الإنسان فتعتني المرأة بالتفاصيل بينما يذهب الرجل للإجمال، فتأتي المرأة أكثر دقة فيما تراه من الرجل، فتلاحظ ما يلاحظه في فنها واهتمامها بخلاف الرجل الذي يحكم على الملابس بالإجمال، والألوان بشكل عاجل ومتناسق، وعلى الحياة بجمل عامة!

أما على مستوى العلم، فإن العالم أكثر تركيزا على التفاصيل من مجرد المتعاطي مع العلم والذي يأخذه كمهنة ومصدر رزق، فالعالم لا تأتي اكتشافاته إلا من التفاصيل التي يبرع فيها، فيضيف للعلم شيئا ويضيف عالم آخر أكثر دقة في التفاصيل شيئا آخر حتى تجد أن التفاصيل كونت العلم الذي تراكم مع بعضه حتى خلق شيئا مميزا.

أما على مستوى الدول والحضارات فإن الدول تكاد تتشابه في كل شيء، ذلك أن الإنسان هو الإنسان، لكن تتقدم أمة على أختها، وحضارة على أخرى من خلال التفاصيل، حتى تعجز أحدهما عن لحق ركب الأخرى بسبب كثرة التفاصيل التي اعتنت بها، بينما الأخرى صارت حضارتها مجملة لا تفاصيل فيها، كيفما تذهب بها رياح التغيير وتأتي فيها رياح التبعية، فلا هوية لها لأنه لا تفاصيل لها تستحق المحافظة عليها.

ولذلك جاءت التفاصيل فضيلة العمل كله، ففي التفاصيل فن العمل والتميز عن غيره، ولذلك لو رأيت ما يميز أحدهما عن الآخر فهو في التفاصيل التي يعتني بها، وهي دقة العمل ودقة النظر.

Halemalbaarrak@