زيد الفضيل

تحرير مفهوم الكفاءة في السياق القبلي

السبت - 08 يناير 2022

Sat - 08 Jan 2022

عرف علماء الاجتماع القبيلة على أنها: «مجموعة بشرية متضامنة تشعر بانتسابها إلى أصل قرابي مشترك، تجمعها ثقافة وأعراف ومصالح مشتركة، وتشكل تنظيما اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا وعسكريا واحدا»، وهي بهذا التعريف الواسع تكاد تكون أساسا لكثير من الأصول المجتمعية ليس في عالمنا العربي وحسب، بل وعلى امتداد المساحة الجغرافية للاستيطان البشري بوجه عام. كما أنها ووفقا لذات التعريف يمكن أن تتخذ أشكالا تنظيمية متنوعة بحسب السياق المكاني الذي تكون فيه، وبالتالي فإن كانت لا تزال تحافظ على شكلها التقليدي في منظومتنا الاجتماعية العربية، فهي قد تبلورت ضمن سياق آخر في بعض المجتمعات الحديثة، وليست قبائل المافيا الممتدة عالميا، ومجموعات الضغط القومية، كاللوبي الصهيوني مثلا، بعيدة عن نسق وسياق التعريف السابق شكلا ومضمونا.

إذا فالقبيلة من حيث نسقها وتكوينها ووظيفتها ليست محصورة في سياق مجتمعنا الحياتي وحسب، بل هي قانون مجتمعي إنساني، وهي قانون غريزي أيضا وتتجلى مظاهره في مجتمع الحيوان كذلك، فلكل قطيع قانونه وقائده. وهو نظام متعد لعالم الجن والملائكة الذين خرج من لوائهم إبليس بتكبره وسوء أدبه مع الله، فكان أن حذر الله منه ومن قبيلته في قوله تعالى {يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون}.

ما يدعوني إلى التقديم بما سبق راجع إلى اللغط الذي أثير مؤخرا جراء حديث الدكتور سعد الصويان مع الإعلامي عبدالله المديفر، ودعوته إلى إنهاء جانب من منظومة القيم الاجتماعية الضابطة للعلاقات بين أبناء القبيلة وبخاصة في مسائل الكفاءة وما يتعلق بها، ورؤيته بأنه قد آن الأوان لأن تتوجه الدولة إلى تزويج ما يسمى مجتمعيا بـ«الخضيري» من ابنة قبيلة واضحة الانتماء والنسب، وحتما فالأمر وفقا لذلك لن يتوقف على فئة «الخضيري»، بل سيتعدى ليصل إلى فئة «الصلب» الذين توجه المديفر بالسؤال عنهم في أساس الحلقة.

ومع إيماني بأن الناس عند الله كأسنان المشط، وإن أكرمهم أتقاهم يوم لا ظل إلا ظله، وفي الحياة الدنيا كذلك، لكني أؤمن أيضا بأن الأمر لم يكن مثاليا في يوم من الأيام، حتى في مجتمع النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، فأم المؤمنين زينب بنت جحش قد استنكفت من زواجها من زيد بن حارثة لكونه كان مولى من موالي النبي وهي سيدة من سيدات مكة، وبالرغم من ذلك فقد تزوجته، ثم لم تحب أن تكمل معه، ومع ذلك لم يؤاخذها النبي أو يرفض ما عن في خاطرها من خاطر، بل جاء الأمر الإلهي بأن يتزوجها هو بعد طلاقها من زيد لحكمة فقهية أرادها الشارع جل وعلا حتى يؤكد إبطال مفهوم التبني وما يترتب عليه من أحكام، وكان زيد بن حارثة يسمى زيد بن محمد لتبني النبي -عليه الصلاة والسلام- إياه، ثم جرى إعادة تسميته بأبيه بعد ذلك وصار يسمى بزيد بن حارثة.

على أن الأمر لم يتوقف عند ذلك بل جاء عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس»، وفي ذلك إقرار واضح بالتباين النسبي وأثره في موضوع بناء الأسرة، وتكوين العلاقات القرابية ضمن إطار المجتمع، وهو ما أسس لمفهوم اعتبار الكفاءة النسبية حال الزواج في مدونة الفقه عند جميع المسلمين، مع اختلاف تشددهم في ذلك بين إمام وآخر.

وفي تصوري فالكفاءة النسبية لم تعد اليوم هي المعيار الرئيس لقياس مدى التوافق بين الزوجين، إذ ومع توسع الحياة المجتمعية جراء زيادة مساحات المدن، وتغير وظيفتها التقليدية، بحيث أصبحت المدينة موئلا لكل الناس، ومقرا لحياتهم، ثم مع حالة الانفتاح المعيشي بها، وتقلص وظيفة الأسرة الممتدة ودور العاقلة الاجتماعي إلا في الملمات الكبرى، فقد أدى ذلك إلى انصهار الأسرة النووية الصغيرة في ثنايا مجتمع فسيفسائي متنوع، وتكون داخل أفرادها وعي ثقافي مدني غير منضبط بمعيار القبيلة وهويتها، وبات ذلك الوعي معيارا رئيسا في بناء علاقاتها الإنسانية أولا وحتما القرابية كذلك، وهو ما يفرض معيار الكفاءة الثقافية على الذهن القبلي، ويدعو الفقيه المعاصر للاجتهاد وتحرير المسألة من جديد وفقا لمعطياتها المتجددة أيضا، وترك الأمر للتوافق المجتمعي دون تدخل من أحد.

ختاما فلا يزال للقبيلة دورها الفاعل ضمن منظومتنا العربية وبخاصة في شبه الجزيرة العربية وبلاد الهلال الخصيب، وكانت ولم تزل بقيمها وأعرافها الأصيلة أمانا لكثير من المجتمعات في المنطقة، وهي بنظامها القرابي سند لكل أحد، وعون لكل حاكم، ولست مع تقويض مؤسستها بل مع تهذيب سلوك أفرادها، ودمجهم في منظومة المجتمع المعاصر بقيمهم ومروءاتهم العربية الأصيلة، لتتمكن القبيلة من الانخراط في سياق المجتمع المدني وفق مفهوم وسياق وظيفي متجدد أسوة بما كانت عليه في سياقها البدوي أو الفلاحي القديم.

zash113@