طامي الشمراني

الليل والشعراء

السبت - 01 يناير 2022

Sat - 01 Jan 2022

إن المتأمل في الشعر العربي، سيجد أن ثمة ألفاظا تشكل أنساقا ثقافية في بنيته الشعرية، وتحمل دلالات متنوعة ليس من السهل تجاوزها، بل ربما نحن في حاجة للبحث عن مضمراتها الدلالية الكثيرة التي تشكل بؤرا أساسية في بناء شعرية النصوص، ولعل من أبرز تلك المفردات التي تحضر بقوة وتكاد لا تغيب شمسها عن أي تجربة شعرية، هي مفردة الليل، وطرق تعامل الشعراء معها وسبكها في صياغة صورهم الشعرية، فالمتأمل للحقل اللغوي لهذه المفردة سيجده غنيا بالدلالات والاشتقاقات، فكانت العرب تقول هذه ليلة ليلاء إذا اشتدت ظلمتها، بل إنها أشد ليالي الشهر ظلمة، وليل أليل شديد الظلمة، ووصف الليالي بالعجاء، والدهماء، والليلاء وذلك تعبيرا عن ظلمتها، وجاء في بعض المصادر أنه في الأندلس ثمة واد يسمى واد الليل؛ لأن أشجاره ملتفة كثيفة تحجب ضوء الشمس، فيخال الجالس في ظلها النهار ليلا.

ولليل في قصائد الشعراء حظوة خاصة فهو حاضر في شعرنا العربي منذ العصر الجاهلي وحتى يوم الناس هذا، وقد ارتبط بدلالات متعددة، قد لا يسمح المقام إلا باستعراض دلالتين مسيطرتين، هما دلال القصر والطول، فقد صحب الشعراء الليل المثقل بالهموم وعاشوا خلف أستاره فصارت حياتها كأنها ليل لا فجر له، وهنا تحضر صرخات امرئ القيس: (وليل كموج البحر..)، ( ألا أيها الليل الطويل ألا انجل..) فليل المشرد الباحث عن ثأره هو ليل مرتبط بالحالة النفسية، فالنفس التي يقضي القلق والأرق سكينتها يمسي الليل طويلا ثقيلا حافلا بالهموم، ومع لا أمل قريب بولوج النهار وانبلاج فجره، وهو ما ينطبق أيضا على ليل العشاق الذين أذاب الشوق والبعد عن محبوباتهم أكبادهم، ولعل الحصري القيرواني هو خير من عبّر عن هذا الاتجاه:

يا ليلُ الصبُّ متى غده/ أقيام الساعة موعده

في حين نجد قصر الليل عند المحبين، فهو الصديق المفضل، حيث تغيب أعين الرقباء والوشاة والعذّال، فهو وقت الزيارة واللقاء وهو ما عبرت عنه ولادة بن المستكفي بقولها:

ترقب إذا جنّ الظلام زيارتي/ فإني رأيت الليل أكتم للسرّ

وقد جعل الأدباء المعاصرون لليل فلسفة خاصة لخصها العقاد بقوله: إننا بالنهار جزء صغير من العالم الواسع الكبير، ولكن العالم الواسع الكبير كله جزء من مدركاتنا حين ننظر إليه بالليل وهو في غمرة السبات، أو في غمرة الظلام.

وهذه العناية بالليل على حساب النهار تبرز في المعجم التفصيلي لجزئيات الليل في معاجم الشعراء، ومعاجم اللغة، فقد احتفي به في تفصيلاته كلها، وهذا ما يبرز في التسميات المتعددة لمراحله، فيقال لأوله الشفق، ثم العشاء بعد ما يغيب من الشفق، ثم العتمة إذا اشتدت ظلمة الليل ثم السحرة ثم الغلس، والغسق عند اشتداد الظلمة. وتبقى لليل دلالات أخرى مقترنة بالتنسك والعبادة، وهذه الدلالة تبرز في شعر النّساك والمتعبدين والزاهدين، فتتجلى فيه لحظات السكينة والسمو الروحي، ويبقى النهار غائبا عن فلك الشعرية، وليبقى التنافس بينها إلى أن يرث الله الأرض وما عليها.