وليد الزامل

المدينة والعلاقة الحميمة بين الروح والجسد؟!

السبت - 01 يناير 2022

Sat - 01 Jan 2022

اتجهت حركات الحداثة الحضرية إلى تطوير البيئة المبنية في المدن على حساب الجوانب الاجتماعية وروح المدينة والثقافة والأصالة.

ولاقت هذه الأفكار استحسان العديد من المطورين والمستثمرين من منطلقات ذات أهداف استثمارية دون إدراك شمولي لعواقب هذا التغيير على مجتمع المدينة واقتصاديات السكان وحقوق الأجيال القادمة. لقد أسهمت التحولات الاقتصادية والرأسمالية في الولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية في ازدهار الصناعة العقارية، واتجه العديد من المستثمرين نحو الاستثمار العقاري، وإعادة تطوير المناطق الحضرية بهدف تحقيق الأرباح، وكان من نتائج ذلك أن تم إجلاء العديد من الفقراء المقيمين في وسط المدينة إلى أطرافها، وفقد كثير من سكان المدينة وظائفهم ومساكنهم ومصادر رزقهم بسبب انتقالهم إلى أطراف المدينة دون توفير وسيلة مواصلات رخيصة، كما هاجر العديد منهم خارج المدن بحثا عن مساكن تتلاءم مع حدود القدرة الاقتصادية؛ فالمدينة لم تعد قادرة على استيعابهم.

كانت المشاريع الضخمة للتجديد الحضري، بقيادة روبرت موسى في نيويورك، مثالا صارخا لسيطرة السوق الاقتصادي على حساب أهداف التنمية الاجتماعية. في تلك الفترة، أصبحت قوى السوق الجزء المهيمن في تطوير المدن رافعة شعار الاستثمار ودعم الأغنياء بديلا عن مساعدة الفقراء ودعم قدرة الشركات الصغيرة على البقاء في مكانها دون أن تبتلعها الشركات الكبرى. وهكذا أصبحت المدن تبحث عن إشباع رغباتها الاستثمارية بعيدا عن روحها وأصالتها ونشاطها الثقافي. في الحقيقة، لم تكن هذه الصورة النمطية منتشرة في المدن الأمريكية فحسب؛ بل في العديد من مدن العالم، حيث يميل أصحاب هذا الفكر إلى استثمار (جسم) المدينة على حساب الجانب الروحاني والاجتماعي. لقد أسهمت حركات التجديد الحضري في عام 1950 في تعزيز الفصل العنصري للفقراء، والميل إلى المادية، وفقدان الرصيد التاريخي.

إن التحدي الهيكلي في المدن والذي يركز على الشكل (الاستثماري) على حساب الاعتبارات الإنسانية لا يزال مستمرا حتى يومنا هذا، فالميل إلى ثقافة المستهلك يُروج لفكرة بناء عدة أسواق جديدة حول العالم. لذلك، يأتي دور المُخطط العمراني بمثابة (المُناضل) لمواجهة هذه التحديات ودعم الأصالة والهوية الاجتماعية في المدينة؛ لتصبح مدننا قادرة على استيعاب كافة شرائح المجتمع في إطار يحقق العدالة والمساواة للجميع. علينا أن ندرك أن الحداثة والتطور لا يعنيان التعارض مع الكلاسيكية الحضرية في المدينة أو المبادئ الجمالية التي تعكس هويتنا وثقافة مجتمعنا الأصيلة؛ وهي من باب أولى لا تعني تدمير النسيج الاجتماعي في المدينة.

إن المدينة ليست مجرد بناء جسدي خاو بلا روح؛ فالبناء المادي يترجم التفاعل الاجتماعي والاقتصادي ومجمل المتغيرات التشريعية والإدارية. ومن المؤسف، لا زال هناك قصور في فهم المنظور الشمولي لتخصص «التخطيط العمراني» حيث يُختزل دور المُخطط في إعداد مخططات ورقية ونماذج تجسد أفكارا تسويقية بلا جوهر، ويشارك هذا المُخطط في تكرار سرد حكايات ونظريات وتجارب لا يمكن تطبيقها ضمن إطار المجتمع المحلي، ويتحمس البعض بتقديم نماذج وأفكار لمدن أو أحياء سكنية أشبه بلوحات فنية ملونة لأغراض تسويقية لا تمت للتخطيط العمراني بصله فهذا الحي يستمد فكرته من تداخل أغصان الشجرة، حيث تمثل الأغصان الشوارع في حين تمثل الأوراق الوحدات السكنية، وذاك حي سكني آخر يستمد فكرته من الأزهار المتفتحة، حيث تتوزع المجاورات السكنية حسب توزيع أوراق الأزهار يتوسطها مركز الحي الذي يمثل النواة! وهكذا بات التخطيط العمراني الحديث معرضا للوحات فنية وساحة يلعب فيها الجميع، حتى أصبحت المدينة جسدا بلا روح!

waleed_zm@