يكتب العلامة عمر فروخ فتحس قرب ما بينه وبينك، وكأنه يناجي قارئه أو يحاوره، فيعرف منهجه في التفكير، ويقف على جوانب من حياته، وآرائه في الناس والمجتمع والثقافة، وربما كان في كل كتاب من كتبه ما يجلو لنا ناحية من حياته، ولن يكفي أن نقرأ سيرته الذاتية «غبار السنين» لنعرف جهاده وكفاحه وأسلوبه في الحياة، إننا نحتاج إلى أن نقرأ طائفة من مؤلفاته، فمقدمات كتبه تلوح منها شذرات من حياته، وفي أثنائها يتكشف لنا رأيه ومذهبه في الثقافة والأدب.
أذكر أنني حين قرأت كتابه «هذا الشعر الحديث»، سنة 1406هـ، خالجني شعور أن عمر فروخ هو كاتبي الأثير، ومضت السنون وامتدت أواصر الصلة بيني وبين مؤلفاته، أحببته كما لم أحب كاتبا، وأدمنت قراءة مؤلفاته في الأدب والنقد والتاريخ والفلسفة والدين والحضارة والاجتماع، وكنت أميل إلى أسلوبه في الكتابة، ومنهجه الواضح في التفكير، كان يتخذ الوضوح سبيلا لعرض أفكاره، وبدا لي، آنئذ، أن غايته التي يبتغيها من وراء ما يكتب أن يثقف وأن يربي، ولا غرابة في ذلك، وقد أمضى ذلك العلامة الكبير عمره في التربية والتعليم العام.
كشف لي كتاب «هذا الشعر الحديث» جوانب معتمة في نظرية الأدب والنقد، أرشدني إلى الطريق، أسرني وضوحه وجرأته وصراحته، وكنت أعرف حياته وجهاده الثقافي كلما مضيت في قراءة الكتاب، وربما صح أن نعتد الكتاب بكامله، كتابا في السيرة الذاتية الثقافية قدر ما هو كتاب في نظرية الشعر أو الأدب المقارن، بإمكاننا أن نزعم ذلك، فالكتاب ينبئ عن مؤلف واسع المعرفة، تقرؤه فينقلك إلى غير ثقافة، وتمتن معرفتك بالقصيد والموشح والشعر الحر وشعر التفعيلة، ثم إذا به يطوف بك في نظرية الشعر في الغرب، فتقرأ كلاما جديدا أصيلا، لا يماري فيه ولا يهادن، ولكنه يستقيم مع منهجه الذي أخذ به.
عرفني الكتاب على مظاهر مختلفة من تاريخ الأدب ونظرية الشعر، وعرفت جمهرة من أسماء الشعراء والنقاد والفلاسفة؛ عرفت بيت عمر فروخ وأساتذته وزملاءه في الجامعة الأمريكية في بيروت، وأساتذته في ألمانيا، حين قصدها للظفر بشهادة الدكتوراه، وبينما كنت أقرأ كلاما في أخص ما يخصه في البيت، وبينما كنت أظهر على رأيه في المسرح الشعبي - عرفت شيئا من ألوان الحياة في الجامعة الأمريكية ونشاط عمر ورفقائه فيها، وأحسست قرب ما بيني وبين الجماعة الأدبية التي كونها جمهرة من الأصدقاء، كان عمر فروخ أحدهم، وكان جميل سعيد ووجيه البارودي وإبراهيم طوقان أعضاءها، وكانت «دار الندوة»، وهذا اسمها، جمعية أدبية تكونت في الجامعة وانتهى الغرض منها بتخرج أعضائها، لكن كتاب «هذا الشعر الحديث»، ومن قبله كتاب «شاعران معاصران»، وسيرته الذاتية «غبار السنين»، من بعدهما، كل هذه الكتب قيدت لنا قدرا صالحا من حياة عمر فروخ في الجامعة، وطرفا من نشاط زملائه فيها.
في ذلك الوقت قرأت قصيدة ساذجة للشاعر إبراهيم طوقان، لكنها حلوة عذبة. لم يرد إبراهيم أن تكون قصيدة، وكل ما هنالك أنه دفع إلى صديقه عمر فروخ بكتاب (رسالة)، بث فيه أشواقه، وسأله عن عينيه، وقد كان عمر فروخ قصد طبيب عيون للاستشفاء، فقال: كيف عيناك يا عمر؟ فإذا به يحس أن هذه العبارة تصلح أن تكون مطلعا لقصيدة فأتمها، فجاءت هذه القصيدة الساذجة الحلوة الجميلة:
كيف عيناك، يا عمر؟ أنا أدماهما السهر
وعصي من الدموع طغى الهم فانهمر
وخيال ألم بي من حبيب لدى السحر
طاف حينا بمضجعي وتوارى عن النظر
أتبعته جوانحي مهجتي عندما نفر
***
أين ليلى على شوا طئ بيروت، يا عمر؟
كان من (فرعها) الظلام ومن (وجهها) القمر
وسميري مقبل طيب اللثم والسمر
ومدامي، وقد ظفر ت بها نشوة الظفر
***
من معيد مسرتي والزمان الذي غبر؟
حين لم أفتكر بهج ر ولا الهاجر افتكر
ولقد قيل في الحيا ة: هي اللمح بالبصر
هكذا يذهب السرو ر سريعا إذا حضر
يقول عمر فروخ: «ومع أن هذه الأبيات ليست من النمط العالي فإنها صادقة العاطفة عذبة الكلمات، ولا غرو، فهي مقطوعة مرتجلة»، ويظهر لي أن قرب ما بينها وبين القارئ مبعثه ما فيها من عفوية وسذاجة؛ فالشاعر ما أرادها، بدءا، قصيدة، ولكنه فوجئ أن سؤاله «كيف عيناك يا عمر؟» خبأ في أعماقه قصيدة، حان أوان ولادتها.
فجر السؤال القصيدة، ثم ما لبث الشاعر أن تحول عن عمر، ليبث في كتابه إلى صديقه همومه هو وعذابه وشوقه إلى حبيبته، كان السؤال مفتاح الشاعر إلى القصيدة وذريعة لولادتها ونموها، سأل الشاعر سؤالا وأجاب عنه، وحين أجاب غابت عينا صديقه عمر، وحضرت عيناه هو، وألمه، وسهره، وبكاؤه، وبات يستنجد بعمر، فعسى أن يعينه على صديقته التي هجرته، وأذاقته مر العذاب.
[email protected]
أذكر أنني حين قرأت كتابه «هذا الشعر الحديث»، سنة 1406هـ، خالجني شعور أن عمر فروخ هو كاتبي الأثير، ومضت السنون وامتدت أواصر الصلة بيني وبين مؤلفاته، أحببته كما لم أحب كاتبا، وأدمنت قراءة مؤلفاته في الأدب والنقد والتاريخ والفلسفة والدين والحضارة والاجتماع، وكنت أميل إلى أسلوبه في الكتابة، ومنهجه الواضح في التفكير، كان يتخذ الوضوح سبيلا لعرض أفكاره، وبدا لي، آنئذ، أن غايته التي يبتغيها من وراء ما يكتب أن يثقف وأن يربي، ولا غرابة في ذلك، وقد أمضى ذلك العلامة الكبير عمره في التربية والتعليم العام.
كشف لي كتاب «هذا الشعر الحديث» جوانب معتمة في نظرية الأدب والنقد، أرشدني إلى الطريق، أسرني وضوحه وجرأته وصراحته، وكنت أعرف حياته وجهاده الثقافي كلما مضيت في قراءة الكتاب، وربما صح أن نعتد الكتاب بكامله، كتابا في السيرة الذاتية الثقافية قدر ما هو كتاب في نظرية الشعر أو الأدب المقارن، بإمكاننا أن نزعم ذلك، فالكتاب ينبئ عن مؤلف واسع المعرفة، تقرؤه فينقلك إلى غير ثقافة، وتمتن معرفتك بالقصيد والموشح والشعر الحر وشعر التفعيلة، ثم إذا به يطوف بك في نظرية الشعر في الغرب، فتقرأ كلاما جديدا أصيلا، لا يماري فيه ولا يهادن، ولكنه يستقيم مع منهجه الذي أخذ به.
عرفني الكتاب على مظاهر مختلفة من تاريخ الأدب ونظرية الشعر، وعرفت جمهرة من أسماء الشعراء والنقاد والفلاسفة؛ عرفت بيت عمر فروخ وأساتذته وزملاءه في الجامعة الأمريكية في بيروت، وأساتذته في ألمانيا، حين قصدها للظفر بشهادة الدكتوراه، وبينما كنت أقرأ كلاما في أخص ما يخصه في البيت، وبينما كنت أظهر على رأيه في المسرح الشعبي - عرفت شيئا من ألوان الحياة في الجامعة الأمريكية ونشاط عمر ورفقائه فيها، وأحسست قرب ما بيني وبين الجماعة الأدبية التي كونها جمهرة من الأصدقاء، كان عمر فروخ أحدهم، وكان جميل سعيد ووجيه البارودي وإبراهيم طوقان أعضاءها، وكانت «دار الندوة»، وهذا اسمها، جمعية أدبية تكونت في الجامعة وانتهى الغرض منها بتخرج أعضائها، لكن كتاب «هذا الشعر الحديث»، ومن قبله كتاب «شاعران معاصران»، وسيرته الذاتية «غبار السنين»، من بعدهما، كل هذه الكتب قيدت لنا قدرا صالحا من حياة عمر فروخ في الجامعة، وطرفا من نشاط زملائه فيها.
في ذلك الوقت قرأت قصيدة ساذجة للشاعر إبراهيم طوقان، لكنها حلوة عذبة. لم يرد إبراهيم أن تكون قصيدة، وكل ما هنالك أنه دفع إلى صديقه عمر فروخ بكتاب (رسالة)، بث فيه أشواقه، وسأله عن عينيه، وقد كان عمر فروخ قصد طبيب عيون للاستشفاء، فقال: كيف عيناك يا عمر؟ فإذا به يحس أن هذه العبارة تصلح أن تكون مطلعا لقصيدة فأتمها، فجاءت هذه القصيدة الساذجة الحلوة الجميلة:
كيف عيناك، يا عمر؟ أنا أدماهما السهر
وعصي من الدموع طغى الهم فانهمر
وخيال ألم بي من حبيب لدى السحر
طاف حينا بمضجعي وتوارى عن النظر
أتبعته جوانحي مهجتي عندما نفر
***
أين ليلى على شوا طئ بيروت، يا عمر؟
كان من (فرعها) الظلام ومن (وجهها) القمر
وسميري مقبل طيب اللثم والسمر
ومدامي، وقد ظفر ت بها نشوة الظفر
***
من معيد مسرتي والزمان الذي غبر؟
حين لم أفتكر بهج ر ولا الهاجر افتكر
ولقد قيل في الحيا ة: هي اللمح بالبصر
هكذا يذهب السرو ر سريعا إذا حضر
يقول عمر فروخ: «ومع أن هذه الأبيات ليست من النمط العالي فإنها صادقة العاطفة عذبة الكلمات، ولا غرو، فهي مقطوعة مرتجلة»، ويظهر لي أن قرب ما بينها وبين القارئ مبعثه ما فيها من عفوية وسذاجة؛ فالشاعر ما أرادها، بدءا، قصيدة، ولكنه فوجئ أن سؤاله «كيف عيناك يا عمر؟» خبأ في أعماقه قصيدة، حان أوان ولادتها.
فجر السؤال القصيدة، ثم ما لبث الشاعر أن تحول عن عمر، ليبث في كتابه إلى صديقه همومه هو وعذابه وشوقه إلى حبيبته، كان السؤال مفتاح الشاعر إلى القصيدة وذريعة لولادتها ونموها، سأل الشاعر سؤالا وأجاب عنه، وحين أجاب غابت عينا صديقه عمر، وحضرت عيناه هو، وألمه، وسهره، وبكاؤه، وبات يستنجد بعمر، فعسى أن يعينه على صديقته التي هجرته، وأذاقته مر العذاب.
[email protected]