جدة المكان والمكين
السبت - 18 ديسمبر 2021
Sat - 18 Dec 2021
في المجلد الثقافي بموسوعة جدة العلمية، وهي موسوعة شاملة قام بكتابتها نخبة من الأساتذة الأكاديميين، سلطتُ الضوء على جوانب متعددة من سمات المجتمع الثقافي وشخصياته بجدة التاريخية، علاوة على قيامي بتتبع ورصد الحراك العلمي التعليمي والصحفي والأدبي ومختلف الفنون الأدائية من مسرح وغناء وفلكلور، إلى جانب الفنون البصرية كالتصوير الضوئي والفن التشكيلي، وغير ذلك مما يمكن أن يصب في خانة الثقافة بتعريفها الواسع. وأثمر كل ذلك عن حصيلة معرفية مهمة أخال أنها عكست قيمة مدينة تاريخية عريقة تم تدشينها كميناء رسمي لمكة المكرمة في عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان -رضي الله عنه- عام 26 للهجرة.
ما يدعوني إلى الابتداء بهذه المقدمة راجع إلى إحساسي بحالة التيه التي تمر بها مدينة جدة التاريخية ولا سيما مع توالي المهرجانات التي ارتبطت بها، حيث اقتصر التعريف بجدة البلد على جانب واحد من جوانب الثقافة بمفهومها الواسع وهو الجانب الغذائي، هذا في حال لو كان ما يتم عرضه وبيعه من المأكولات تراثيا؛ كذلك اختزلت المدينة ببعض البيوت التي قدر لها أن تكون في الواجهة البصرية سواء في حارة الشام أو المظلوم أو اليمن، ودون أن يكون لها أو لأصحابها المالكين لها سابقا وحاليا أي دور محوري على الصعيد المعرفي أو الاجتماعي، مع إقراري بفضلهم على الصعيد الإنساني بوجه عام، إذ في كل خير.
على أن قيمة جدة وعراقتها لا يمكن اختزالها بما سبق، فقيمة المكان من المكين، وأقصد بالمكين هنا أي: تلك الروح المبدعة التي سكنت المكان، ومدينة جدة البلد تحوي بين جنباتها الكثير من الحكايات التاريخية المهمة لأناس أبدعوا وتجلت أرواحهم معرفيا وفنيا واجتماعيا أيضا، وهو ما يجب أن يبرز للزائر، ذلك الذي يتشوق لمعرفة بعض جوانب التاريخ الحضاري للمدينة حال تجواله في أروقتها ودهاليزها، وكم يؤسفني حالة التغافل عن ذلك القائمة حتى الآن.
كم كنت أرجو أن يتعرف ضيوف مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي على قيمة بيت الشريف المهنا المطل عليهم بشرفاته الجميلة ومنظره الزاهي والذي آل بالشراء مؤخرا لأسرة الشربتلي، حيث حوى عددا من الشخصيات السياسية والثقافية البارزة، ومنهم الوزير طلعت حرب الذي عرف بلقب «أبو الاقتصاد المصري»؛ والأمر يمتد لبيت زينل المطل أيضا على واجهة المهرجان، والذي يعرف باسم «بيت أرامكو»، وحتما فلن تستطيع المدينة تجاوز أحد أبنائها الرئيسيين الذين تركوا بصمة خالدة في وجدانها التاريخي وهو الحاج محمد علي زينل الذي أسس مدرسة الفلاح عام 1903م ولا يزال مبناها قائما حتى الآن، وكذلك الحال مع المبنى الذي افتتحه الملك سعود عام 1954م؛ وبحكم الحديث عن مدارس الفلاح بجدة وجهد من شارك في تأسيسها فلا يمكن إغفال دور عبدالرؤوف جمجوم وأخيه محمد صالح جمجوم في استمرار المدارس وبخاصة من بعد تعرض الحاج زينل لأزمة مالية خانقة أواخر عشرينيات القرن الـ20م، والسؤال: ألا يجب أن تتصدر الفلاح، ومنزل مؤسسها الحاج زينل والأخوين جمجوم قائمة المواقع التي يتم الإشارة إليها وزيارتها حال التعريف بالمدينة التاريخية؟
أشير إلى أن المدينة قد احتضنت كثيرا من الشخصيات البارزة على الصعيد الوطني والذين تركوا بصمة واضحة في مشهدنا الثقافي على الصعيد المعرفي والغنائي وغيره، ومن يتجول في كتاب «أعلام الحجاز» لمحمد علي مغربي سيدرك ما أقول، وسيجد تعريفا بكثير من الشخصيات التي سكنت جدة البلد وتستحق التعريف بها وبيان مسكنها على أقل تقدير، ومنهم من عاصرهم جيلي كالأديب محمد حسن عواد، والشاعر حمزة شحاتة، وثلاثي جدة الذين حفظوا جزءا كبيرا من التراث اللغوي للمدينة العتيقة، وأقصد بهم الشاعرة ثريا قابل والموسيقي المطرب فوزي محسون وثالثهما الشاعر صالح جلال، هؤلاء جميعا وغيرهم كانوا ممن سكن المدينة العتيقة وقدموا فيها كثيرا من إبداعاتهم التي لا نزال نستمتع بقراءتها والغوص في أفانينها الأدبية والمعرفية، ولا تزال أفئدتنا تتمايل مع تلك الكلمات الرقيقة التي شدا بها فوزي محسون ورفاقه، وبالتالي ألا يستحق أولئك أن يتم التعريف بهم وبيان مواطن سكنهم أيضا، وليس مهما أن تكون بيوتهم فاخرة ليتم إبرازها، فقيمة المكان من المكين كما يقال.
واقع الحال فالقائمة تطول وتتنوع بين شخصيات عاشت وأخرى وفدت، ومواطن زكت بمن مر عليها من أهل الله والصالحين، وباتت شاخصة بكيانها حتى اليوم تنتظر من يزيل عنها ركام الغفلة والتغافل، وكل ذلك يصب في قيمة جدة التاريخية ويجعل منها مركزا سياحيا مهما تفد إليه النفوس الباحثة عن عبق التاريخ وعمق المكان وأصالته، وهي قيمة مضافة لا يدرك قيمتها سوى العارفين، وقليل ما هم! وكم أرجو أن تهتم وزارة الثقافة بما أشرت إليه، ويدرك مسؤولوها بأن قيمة المكان من قيمة وأصالة وجوهر أهله، والله المستعان.
zash113@
ما يدعوني إلى الابتداء بهذه المقدمة راجع إلى إحساسي بحالة التيه التي تمر بها مدينة جدة التاريخية ولا سيما مع توالي المهرجانات التي ارتبطت بها، حيث اقتصر التعريف بجدة البلد على جانب واحد من جوانب الثقافة بمفهومها الواسع وهو الجانب الغذائي، هذا في حال لو كان ما يتم عرضه وبيعه من المأكولات تراثيا؛ كذلك اختزلت المدينة ببعض البيوت التي قدر لها أن تكون في الواجهة البصرية سواء في حارة الشام أو المظلوم أو اليمن، ودون أن يكون لها أو لأصحابها المالكين لها سابقا وحاليا أي دور محوري على الصعيد المعرفي أو الاجتماعي، مع إقراري بفضلهم على الصعيد الإنساني بوجه عام، إذ في كل خير.
على أن قيمة جدة وعراقتها لا يمكن اختزالها بما سبق، فقيمة المكان من المكين، وأقصد بالمكين هنا أي: تلك الروح المبدعة التي سكنت المكان، ومدينة جدة البلد تحوي بين جنباتها الكثير من الحكايات التاريخية المهمة لأناس أبدعوا وتجلت أرواحهم معرفيا وفنيا واجتماعيا أيضا، وهو ما يجب أن يبرز للزائر، ذلك الذي يتشوق لمعرفة بعض جوانب التاريخ الحضاري للمدينة حال تجواله في أروقتها ودهاليزها، وكم يؤسفني حالة التغافل عن ذلك القائمة حتى الآن.
كم كنت أرجو أن يتعرف ضيوف مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي على قيمة بيت الشريف المهنا المطل عليهم بشرفاته الجميلة ومنظره الزاهي والذي آل بالشراء مؤخرا لأسرة الشربتلي، حيث حوى عددا من الشخصيات السياسية والثقافية البارزة، ومنهم الوزير طلعت حرب الذي عرف بلقب «أبو الاقتصاد المصري»؛ والأمر يمتد لبيت زينل المطل أيضا على واجهة المهرجان، والذي يعرف باسم «بيت أرامكو»، وحتما فلن تستطيع المدينة تجاوز أحد أبنائها الرئيسيين الذين تركوا بصمة خالدة في وجدانها التاريخي وهو الحاج محمد علي زينل الذي أسس مدرسة الفلاح عام 1903م ولا يزال مبناها قائما حتى الآن، وكذلك الحال مع المبنى الذي افتتحه الملك سعود عام 1954م؛ وبحكم الحديث عن مدارس الفلاح بجدة وجهد من شارك في تأسيسها فلا يمكن إغفال دور عبدالرؤوف جمجوم وأخيه محمد صالح جمجوم في استمرار المدارس وبخاصة من بعد تعرض الحاج زينل لأزمة مالية خانقة أواخر عشرينيات القرن الـ20م، والسؤال: ألا يجب أن تتصدر الفلاح، ومنزل مؤسسها الحاج زينل والأخوين جمجوم قائمة المواقع التي يتم الإشارة إليها وزيارتها حال التعريف بالمدينة التاريخية؟
أشير إلى أن المدينة قد احتضنت كثيرا من الشخصيات البارزة على الصعيد الوطني والذين تركوا بصمة واضحة في مشهدنا الثقافي على الصعيد المعرفي والغنائي وغيره، ومن يتجول في كتاب «أعلام الحجاز» لمحمد علي مغربي سيدرك ما أقول، وسيجد تعريفا بكثير من الشخصيات التي سكنت جدة البلد وتستحق التعريف بها وبيان مسكنها على أقل تقدير، ومنهم من عاصرهم جيلي كالأديب محمد حسن عواد، والشاعر حمزة شحاتة، وثلاثي جدة الذين حفظوا جزءا كبيرا من التراث اللغوي للمدينة العتيقة، وأقصد بهم الشاعرة ثريا قابل والموسيقي المطرب فوزي محسون وثالثهما الشاعر صالح جلال، هؤلاء جميعا وغيرهم كانوا ممن سكن المدينة العتيقة وقدموا فيها كثيرا من إبداعاتهم التي لا نزال نستمتع بقراءتها والغوص في أفانينها الأدبية والمعرفية، ولا تزال أفئدتنا تتمايل مع تلك الكلمات الرقيقة التي شدا بها فوزي محسون ورفاقه، وبالتالي ألا يستحق أولئك أن يتم التعريف بهم وبيان مواطن سكنهم أيضا، وليس مهما أن تكون بيوتهم فاخرة ليتم إبرازها، فقيمة المكان من المكين كما يقال.
واقع الحال فالقائمة تطول وتتنوع بين شخصيات عاشت وأخرى وفدت، ومواطن زكت بمن مر عليها من أهل الله والصالحين، وباتت شاخصة بكيانها حتى اليوم تنتظر من يزيل عنها ركام الغفلة والتغافل، وكل ذلك يصب في قيمة جدة التاريخية ويجعل منها مركزا سياحيا مهما تفد إليه النفوس الباحثة عن عبق التاريخ وعمق المكان وأصالته، وهي قيمة مضافة لا يدرك قيمتها سوى العارفين، وقليل ما هم! وكم أرجو أن تهتم وزارة الثقافة بما أشرت إليه، ويدرك مسؤولوها بأن قيمة المكان من قيمة وأصالة وجوهر أهله، والله المستعان.
zash113@