مقاربة في رثائيات عبدالله الصيخان
الخميس - 16 ديسمبر 2021
Thu - 16 Dec 2021
«شاعر الصحراء والقوافي»؛ الشاسع كالوطن، يغرد كما يشاء بروح عذبة رقيقة، كما أنه من أبرز شعراء الحداثة في المملكة، هذا باختصار شديد الشاعر عبدالله الصيخان، الذي يلفت القارئ بما يقدمه من قصائد ذات شعرية طافحة بأشكالها المتنوعة.
يبوح الشاعر بمكنوناته الوجدانية، منغمسا بالوطن والذات والصحراء موزعا بين القمح والنخيل والنساء الأصيلات والصوت الشجي، والليل والرفاق، يرثي، فنرتجل الدموع بحرقة.
من هذا المنطلق سوف نتناول قصيدة الرثاء عند هذا الشاعر بلونين مختلفين؛ رثاء الأقارب، ورثاء الرفاق.
يعد الرثاء غرضا شائعا في الشعر العربي كغيره من الأغراض، وفي الشعر السعودي برز هذا الغرض لدى شعراء كثيرين، وتميز بخصائص عامة يلتقي فيها شعراء الرثاء، كما كان لكل شاعر ميزاته التي تفرد بها إلى حد ما.
ومن الشعراء الذين برعوا في هذا الغرض شاعرنا الصيخان الذي سنتناول في هذه المقالة نموذجين للرثاء عنده؛ أولهما رثاء عمته فاطمة، والثاني رثاء صديقه وفنان الشّعب الفنان الراحل طلال مداح.
وإذا كان شعر الأقارب (يقال على السجية)، كما يذهب مصطفى الرافعي في كتابه تاريخ آداب العرب، فإن هذا ما سنجده لدى شاعرنا الذي يبدأ قصيدة رثاء عمته فاطمة بقوله:
كأنّ النساء خرجن من الماء
وفاطمةٌ وحدَها خرجتْ من بَرَدْ
إن ثنائية ( الماء والبرد) تمنح التعبير الرثائي عند الشاعر خصوصية، وتفرد في التعامل مع لغة الرثاء، فقد أراد أن يميّز عمته التي هي من معدن غير معدن النساء، بل إن النساء يتمنين أن يكن مثلها، ثمّ ينتقل ليعدد حالاتها خلال أيام الأسبوع مؤكدا أن يوم الثلاثاء وهو اليوم الذي رحلت فيه لا يشبه غيره، فقد مر ولم يلحظه يوم الأحد الذي يفصله عنه يوم الاثنين:
كأنّ مساءَ الثلاثاء مرَّ
ولم يتفرَّسْ في راحتيه نهار الأحدْ
يقول له إن ما بيننا
يوم اثنين مسترسلٌ في بياض نَهَدْ
فالصخب الزمني الذي يظهر في تشخيص أيام الأسبوع ومنح قدرات خاصة على الشعور، يمنح الزمن في النص امتدادا وحزنا، ثم تتلاحق صفات المرثية، حسب المألوف في القصيدة الرثائية، لكن مع انحراف في الانزياحات، فقصيدة الصيخان لم تتخل عن سمة الاحتفاء بالمتوفى في الشعر القديم، لكنها منحتها أساليب وصورا مبتكرة، فالمعزّون بعد دفنها وجدوا قمرا نابتا خلف حنائها، وهو قمر من الحنان، وقد نما في المكان شجر أخضر اسمه فاطمة.
قيل إن الذين أتوا بعد يومين من دفنها
وجدوا في المكان
قمرا نابتاً خلف حنّائها
فنما شجرٌ أخضرٌ
اسمُهُ فاطمهْ.
فتتطغى النزعة السردية على قصيدة الرثاء عند الصيخان، فالشاعر يروي حكاية حزن وألم، يلف النص ويمنحه تماسكا معنويا وعضويا، من هنا يذكر الشاعر ولدها اليتيم الذي يبحث عن ضحكتها، وآخر يلم حكاياه قبل السفر، وهو يرحل نحوها.. وهكذا يجعل الشاعر عمته تمتزج بالمكان والنساء في القرية، فكل شيء يبحث عن أساور فاطمة، وهذه الأسلوبية تميز قصيدة الرثاء عند الصيخان، ومما يؤكد ذلك قصيدته في رثاء الفنان طلال مداح، فقد كان العنوان مفتاحا مهما لتلقّي النص في القصيدة التي عنونها (زمان الصمت)؛ حيث اختار الشاعر اسم أغنية للفنان الراحل؛ ليكون فاتحة الرثاء، لكن الصمت هنا، هو الصمت أمام موقف جليل، إنه الموت الذي تذهل العقول والقلوب أمامه، من هنا كانت اللعبة اللغوية في النص هي في محاورة هذه الجملة المفتاحية، إذ يبدأ الشاعر بجملة تقريرية («زمان الصمت» مرّ ولم يجبني) لينتقل إلى التساؤل:
(أيصمت صوتك الزاهي الحبيب؟)، ثم يتابع السؤال عن ذلك الصوت الذي يسرقنا، فيبقي في القلوب وجيبا من خلال الجملة التناصية: («وترحل.. صرختي تذبل بوادي»).. إنه تحريف جمالي للنص المُغنى ليصبح استجابة للحالة الشعورية، إنها حوارية الشاعر مع المرثي من خلال نصه، من هنا يتابع مسترسلا في ذكر أثر صوت الفنان في النخيل والناس ليكون الوطن آخر المطاف في رثائه: (ولن يبقى سوى «وطني الحبيب»).
وفي الختام نلاحظ أن الرثاء لدى الشاعر لم يخرج عن إطاره العام من حيث إظهار مشاعر الحزن، وجعل المرثي ذا مكانة خاصة، إلا أنه تفرد في التقاط التشكيل اللغوي، والبناء الدرامي التناصي والسردي، وربما هذا يكفي لملاحظة التجديدات الأسلوبية في النص الرثائي، فصارت القصيدة وطنا بأرضه ونخيله ونسائه وأبنائه وصدى لصوت عميق يأسرنا كما تأسرنا النساء الأصيلات، والفنان الأصيل، والفن الأصيل بشكل عام.
يبوح الشاعر بمكنوناته الوجدانية، منغمسا بالوطن والذات والصحراء موزعا بين القمح والنخيل والنساء الأصيلات والصوت الشجي، والليل والرفاق، يرثي، فنرتجل الدموع بحرقة.
من هذا المنطلق سوف نتناول قصيدة الرثاء عند هذا الشاعر بلونين مختلفين؛ رثاء الأقارب، ورثاء الرفاق.
يعد الرثاء غرضا شائعا في الشعر العربي كغيره من الأغراض، وفي الشعر السعودي برز هذا الغرض لدى شعراء كثيرين، وتميز بخصائص عامة يلتقي فيها شعراء الرثاء، كما كان لكل شاعر ميزاته التي تفرد بها إلى حد ما.
ومن الشعراء الذين برعوا في هذا الغرض شاعرنا الصيخان الذي سنتناول في هذه المقالة نموذجين للرثاء عنده؛ أولهما رثاء عمته فاطمة، والثاني رثاء صديقه وفنان الشّعب الفنان الراحل طلال مداح.
وإذا كان شعر الأقارب (يقال على السجية)، كما يذهب مصطفى الرافعي في كتابه تاريخ آداب العرب، فإن هذا ما سنجده لدى شاعرنا الذي يبدأ قصيدة رثاء عمته فاطمة بقوله:
كأنّ النساء خرجن من الماء
وفاطمةٌ وحدَها خرجتْ من بَرَدْ
إن ثنائية ( الماء والبرد) تمنح التعبير الرثائي عند الشاعر خصوصية، وتفرد في التعامل مع لغة الرثاء، فقد أراد أن يميّز عمته التي هي من معدن غير معدن النساء، بل إن النساء يتمنين أن يكن مثلها، ثمّ ينتقل ليعدد حالاتها خلال أيام الأسبوع مؤكدا أن يوم الثلاثاء وهو اليوم الذي رحلت فيه لا يشبه غيره، فقد مر ولم يلحظه يوم الأحد الذي يفصله عنه يوم الاثنين:
كأنّ مساءَ الثلاثاء مرَّ
ولم يتفرَّسْ في راحتيه نهار الأحدْ
يقول له إن ما بيننا
يوم اثنين مسترسلٌ في بياض نَهَدْ
فالصخب الزمني الذي يظهر في تشخيص أيام الأسبوع ومنح قدرات خاصة على الشعور، يمنح الزمن في النص امتدادا وحزنا، ثم تتلاحق صفات المرثية، حسب المألوف في القصيدة الرثائية، لكن مع انحراف في الانزياحات، فقصيدة الصيخان لم تتخل عن سمة الاحتفاء بالمتوفى في الشعر القديم، لكنها منحتها أساليب وصورا مبتكرة، فالمعزّون بعد دفنها وجدوا قمرا نابتا خلف حنائها، وهو قمر من الحنان، وقد نما في المكان شجر أخضر اسمه فاطمة.
قيل إن الذين أتوا بعد يومين من دفنها
وجدوا في المكان
قمرا نابتاً خلف حنّائها
فنما شجرٌ أخضرٌ
اسمُهُ فاطمهْ.
فتتطغى النزعة السردية على قصيدة الرثاء عند الصيخان، فالشاعر يروي حكاية حزن وألم، يلف النص ويمنحه تماسكا معنويا وعضويا، من هنا يذكر الشاعر ولدها اليتيم الذي يبحث عن ضحكتها، وآخر يلم حكاياه قبل السفر، وهو يرحل نحوها.. وهكذا يجعل الشاعر عمته تمتزج بالمكان والنساء في القرية، فكل شيء يبحث عن أساور فاطمة، وهذه الأسلوبية تميز قصيدة الرثاء عند الصيخان، ومما يؤكد ذلك قصيدته في رثاء الفنان طلال مداح، فقد كان العنوان مفتاحا مهما لتلقّي النص في القصيدة التي عنونها (زمان الصمت)؛ حيث اختار الشاعر اسم أغنية للفنان الراحل؛ ليكون فاتحة الرثاء، لكن الصمت هنا، هو الصمت أمام موقف جليل، إنه الموت الذي تذهل العقول والقلوب أمامه، من هنا كانت اللعبة اللغوية في النص هي في محاورة هذه الجملة المفتاحية، إذ يبدأ الشاعر بجملة تقريرية («زمان الصمت» مرّ ولم يجبني) لينتقل إلى التساؤل:
(أيصمت صوتك الزاهي الحبيب؟)، ثم يتابع السؤال عن ذلك الصوت الذي يسرقنا، فيبقي في القلوب وجيبا من خلال الجملة التناصية: («وترحل.. صرختي تذبل بوادي»).. إنه تحريف جمالي للنص المُغنى ليصبح استجابة للحالة الشعورية، إنها حوارية الشاعر مع المرثي من خلال نصه، من هنا يتابع مسترسلا في ذكر أثر صوت الفنان في النخيل والناس ليكون الوطن آخر المطاف في رثائه: (ولن يبقى سوى «وطني الحبيب»).
وفي الختام نلاحظ أن الرثاء لدى الشاعر لم يخرج عن إطاره العام من حيث إظهار مشاعر الحزن، وجعل المرثي ذا مكانة خاصة، إلا أنه تفرد في التقاط التشكيل اللغوي، والبناء الدرامي التناصي والسردي، وربما هذا يكفي لملاحظة التجديدات الأسلوبية في النص الرثائي، فصارت القصيدة وطنا بأرضه ونخيله ونسائه وأبنائه وصدى لصوت عميق يأسرنا كما تأسرنا النساء الأصيلات، والفنان الأصيل، والفن الأصيل بشكل عام.