عبدالحليم البراك

الاستثمار بالجهل

الاثنين - 13 ديسمبر 2021

Mon - 13 Dec 2021

إذا ما شاهدت فيلما شهيرا، وكان جزء من هذا الفيلم العظيم حديثا أو أحداثا عن الطب وأنت طبيب، أو عن الجريمة وأنت في الشرطة الجنائية، أو اقتباسا فلسفيا ولك اهتمام بالفلسفة، فستجد كيف أن الفيلم يشرح قضية طبية بطريقة خاطئة، بل ويمارسها بطريقة خاطئة، ولا يكتشفها إلا الأطباء، بل ويعترض عليها أصغر طبيب مستجد.وإن تسلل الفيلم للعمل في التحقيق الجنائي فقد ترى خطأ لا يقره أصغر محقق جنائي، ولا حتى أسوأ مجرم مارس الإجرام قليلا أو كثيرا، بل إن دراما الفيلم تراكم الأخطاء الجنائية الفاضحة، وأن الاقتباس الفلسفي الذي تم استخدامه ليس في محله، وربما تم نطق مفرداته بشكل خاطئ، ويمكن أن يلاحظ هذا كل من كان له اهتمام ولو بسيطا في الفلسفة، فما الذي يحدث؟!

كل الذي يحدث هو أن صانعي الأفلام يعرفون أن الناس كلهم ليسوا أطباء، وأن الناس ليسوا مجرمين كذلك، ولا محققين جنائيين، وليسوا على اطلاع بالفلسفة، وأنهم شريحة صغيرة جدا بباقي الشرائح، خاصة إذا ما قلنا إن ثمة من يستهدف من خارج الحدود، فهم يجهلون ثقافة وأنظمة الدول الأخرى، ولذلك يستغلون جهل الناس بهذه الأشياء، فيصنعون إثارة كبيرة بالأحداث الطبية والجنائية الخاطئة المكشوفة مستثمرين جهل الناس من جهة، ومستثمرين احترافيتهم بالإثارة وليس شيئا آخر غير الإثارة.

هذه مقدمة عن شيء واحد فقط، هو أن هناك استثمارا كبيرا في الجهل، بسبب كسل الإنسان عن البحث عن المعلومة الصحيحة، ويريد أن يحصل على المنفعة بأسرع وقت ممكن حتى لو دفع مالا أكثر، أو تم استغلاله أيضا، والسبب الآخر هو عمق التخصص، فالمهندس يستثمر في جهل الناس في البناء، والمزور يستثمر في جهل الناس في التدقيق في مصداقية الأوراق الثبوتية، وهكذا، بل بعض الأطباء والصيادلة والمستشفيات تستثمر في جهل الإنسان في الطب، فيطلب الطبيب منه تحاليل وأشعة ليست ضرورية، وربما صرف له أدوية لا يحتاجها، حتى يذهب للصيدلي الذي يروج سلعته، فيزعم انقطاع هذا المنتج ليروج لمنتج آخر ذي هامش ربحي أعلى بالنسبة له، ولا تنس مستشفى يحفز أطباءه بالبقاء أو بالدفع لهم أكثر باستنزاف جيوب المرضى أو استغلال شركات التأمين، والباب هو جهل الآخر، والهدف هو استثمار هذا الجهل لصالحه!

هذا هو الإنسان بكل بشاعته، يستثمر في جهل الإنسان الآخر، ويستغل كسله وعدم تخصصه ليجعل من الإنسان (ضحية) من أجل النفوذ أو السيطرة أو كسب المال، وهذا ما تفعله شركات الأدوية وشركات السيارات، وشركات التأمين والبنوك، وشركات الهواتف والإلكترونيات، بل الأمر أكثر من هذا، فيستغل بعض المفكرين النفعيين لتمرير بعض الأفكار المنطقية في تسلسلها الخاطئة في نتائجها مستغلين جهل الناس بالفكر والتفكير العقلاني، لتحقيق مآرب إما شخصية أو قومية على حساب شخصيات أخرى أو قوميات أخرى، دون وجل أو خوف، في استغلال فاضح للجهل والاستثمار فيه.

ويوما ما ستجد من يضع ميزانية خاصة لتكريس الجهل ليتم استغلاله أكثر، فنقيض الجهل هو العلم والوعي، وكلاهما محارب إذا ما كانا يمكن أن يفضحا ذلك الشخص أو المؤسسة المستغلة، فالجهل آفة وبنفس الوقت مرتع خصب للاستغلال المادي والمعنوي، وحتى التاريخي والحضاري فيه. ولا مقاومة يمكن أن يمنحها الفرد لنفسه ومجتمعه مثل الوعي والعلم والعقلانية.

Halemalbaarrak@