فهد عبدالله

حالة اعتدال

الخميس - 09 ديسمبر 2021

Thu - 09 Dec 2021

من خلال التجارب والمشاهدات المتعددة في شتى المجالات والأفكار والأعمال والعادات والسلوكيات ما وجدت شيئا منها مرتبطا بالاعتدال إلا كان أقرب للحكمة والصوابية وألمح في الزوايا بريقا من الجمال المتكرر وما وجدت شيئا فيه زيادة عن الحد إلا كان فيه شيء من الاعتلال كنتوء يبعثر الصورة يظهر ولو بعد حين، وما أن تربطها بالآيات الكريمات المتعددة مثل قوله تعالى (ألا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان) والآية الكريمة الأخرى (وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها) إلا تجد تلك العلائق والارتباطات الوثيقة بين الاعتدال والفطرة والجمال والصوابية.

الاعتدال ليس مجرد حالة فكرية منشودة أو كيفية تفاعلية مع أمور الحياة بل أجدها تتقاطع مع أعظم المكنونات في داخل النفس من حيث العقل والفؤاد والروح وفي خارجها بالتفاعل مع مختلف تضاريس الحياة، وكأن هناك عمليات برمجة داخلية ترسم ملامح حدود المبالغة والإهمال أو الإفراط والتفريط ومن بعد ذلك المحاولات الدائمة التي تصيب وتخطئ في أن يبقى صاحبها دون هذه الحدود المختلفة، ولا يمكن أن تحدث لملمة توازنات الخارج ما لم يكن الداخل مهندما بكسوة السعي الدائم للاعتدال روحيا وفكريا، عندها سيتسع العقل والصدر لكل تلك الملمات التي تريد أن تزيح حالة الاعتدال عن موضعها.

الشخصية المعتدلة لن تجد حرجا في معرفة أخطائها وتحريرها وتصويبها بشكل سريع ولا ينتظر تراكمات الدروس والعبر حتى ينظر في الأمر، تجدها دائما مرتبطة بوضع الأمور في نصابها ومنشغلة بتقييم أهمية الأمور التي ينخرط فيها فضلا عن وضعها في إطارها العام حتى لا تأخذه التفاصيل بعيدا عن تلك الصورة الكبيرة، ولا يسمح لتلك المؤثرات الخارجية الهامشية أن تقتحم أسوار الاستقرار الداخلي لترسبات ذلك الإيمان والفهم العميق لمعنى الحياة الوجودي وصرفها في السعي لرضا الخالق فضلا عن معرفته التامة للتكلفة الباهظة العابرة لمناشط الحياة المختلفة عندما يتزعزع الاستقرار والاتزان الداخلي.

الشخصية المعتدلة استقر في داخلها عبر تراكم التجارب والمعارف إجابة سؤالين: ما هو معنى الاستقلالية للشخصية وتطبيقاتها اللانهائية وفي نفس الوقت سؤال، ما هو معنى العمل ضمن مجموعة يجمعها إطار وهدف معين ومعرفة محددات هذه الأسئلة لا تلغي بقية المعاني الجميلة التي تضبط معادلات التوازن مثل الظن الحسن والتنازل والتغافل وكأن شيئا لم يحدث والتصويب والتسديد في قوالب اللياقة الأدبية.

ذروة الاعتدال هي تلك المرحلة التي يستطيع فيها الإنسان التحكم النفسي والسلوكي تجاه المؤثرات الداخلية والخارجية وكأن تفعيل الفرح والحزن وبقية الأحوال المشاعرية يمر من خلال بوابة اتزان تهذبها وترتبها وبعد ذلك تخرج من ذلك الباب، فلا يفجر في الخصومة ويضبط النفس عند الغضب ويحب الآخرين هونا ما ويبغضهم هونا ما ولا إفراط في فرح أو حزن ولا مبالغات مشاعرية طويلة الأجل، يضع الأمور في نصابها وفي وقتها دون زيادة أو نقصان قدر الاستطاعة ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.

السعي نحو الاعتدال يفرض على الإنسان إحداثيات متجددة في الشخصية أعلاها رؤية الأمور كما هي بعيدا عن مبالغات الأوصاف أو تأثيرات الانتماءات وأدناها أن العقل ليس للبيع أو الإيجار وما بينهما تلمس للحقائق ورؤية ما عند الآخر بدون أحكام مسبقة وتدرج في مسار العارفين وأهل الحكمة.

الحالة المعتدلة تفرض على صاحبها أن يكون مثاليا في التصورات وواقعيا عند التطبيقات ومهما كانت المسافات المتباعدة بين الوضع المنشود والوضع الحالي فتجده منشغلا بأن يكون اليوم أفضل من الأمس والغد أفضل من اليوم ولو بجزء يسير جدا نحو التقدم نحو تلك التصورات المثالية، فضلا عن أن هذا التقدم المستمر يصاحبه على التوازي خطوط الاستمتاع بالحياة والرضا المتسع يوما بعد آخر والامتنان لله على نعمه التي تغمرنا ولا تحصى ولا تعد.

الحياة ذات الأسلوب المعتدل تشمل الأفكار والعادات والسلوكيات والاهتمامات وكل ما يتصل بداخل وخارج أسوار النفس، بمجرد أن تكون مسحة الاعتدال تهيمن على العقل والبرمجة الداخلية سيجنى صاحبها ولو بعد حين هدوءا داخليا وحكمة مطردة الاتساع ورضا متزايدا وحياة فاعلة مستقرة.

fahdabdullahz@