بسام فتيني

رحلة في ربوع بلادي عام 2050!

الأحد - 05 ديسمبر 2021

Sun - 05 Dec 2021

الساعة الآن السابعة صباحا بتوقيت نيوم، إطلالة شرفة منزلي الذي سكنت فيه بعد تقاعدي تأذن لي يوميا بمعانقة رائحة اليود مع سماع سلام صوت الموج الهادر الجميل، أغسل وجهي المجعد من آثار تجارب الحياة وأنظر للمرآة لأستكشف ما تبقى من شعراتي البيضاء في وجهي، بعد أن أتى الصلع على كامل محيط جمجمتي، أتجهز الآن للتوجه للمطار مسافرا إلى جدة لأحتفل بحفل تخرج حفيدتي من الجامعة، وصلت لمطار الملك عبدالعزيز ومن هناك ركبت قطارالحرمين حيث وجهتي في منزلي القديم بمكة المكرمة، الذي اختارته ابنتي الوحيدة ليكون سكنا لها بعد أن قررت إكمال بقية حياتي على شواطىء نيوم.

كانت بصمتي هي جواز مروري في كل نقطة تتطلب التأكد من هويتي، فليست الحال كما هي حين كنت شابا، ويجب علي آنذاك حمل التذكرة أو بطاقة الهوية الوطنية أو إبراز تطبيق توكلنا، وكنت أجد أجمل تعامل، فبصمتي تم تسجيلها في النظام على أنني من كبار السن وتصنيفهم المعتمد هو مسمى (كبار المواطنين)، وهو التصنيف المعتمد لكل من تجاوز سن الستين وأصبح في خانة المتقاعدين.

ومنذ لحظة وصولي لمحطة القطار في مكة المكرمة كانت ابنتي الوحيدة أماليا في استقبالي، ركبت أنا وهي في المقعد الخلفي لسيارة لوسيد التي كان صندوق الاستثمارات العامة قبل سنوات قد قرر أن يستثمر بها فقطفنا ثمارها اليوم.

وكنا طوال الطريق نستذكر أحداث ومواقف أعمارنا التي مضت سويا، منذ أن كانت طفلة وحتى وهي تستعد لتكون أم العروسة التي تُزف إلى سوق العمل بعد أن أمضت سنوات دراستها الجامعية التي حصلت على تصنيف ومركز السابع عالميا مقارعة أعتى وأقدم جامعات العالم، كل هذا حدث ونحن في السيارة لأنها تفرغت للحديث معي تماما، فالسيارة ذاتية القيادة وتعرف وجهتها جيدا! وتمنحنا الفرصة للحديث دون أن تنشغل عني بالقيادة، وبمجرد وصولي رأيت حفيدتي التي كبرت في وطن عظيم، حيث كانت قبل ولادتها لا تعلم أن جدها قد عاصر تحولات كبرى منذ ولادته في سبعينات القرن الماضي!

هي لا تعرف أن جدها عانى الأمرين حين كان كاتبا صحفيا يكافح من أجل أحفاده قبل ولادتهم بقلمه، هي قد لا تصدق أن جيلا مضى من بنات جنسها كن لا يستطعن قيادة السيارة لأنه لم يكن متاحا لهن ذلك، هي لا تعرف أني شُتمت ورُميت بأقبح الأوصاف وبأقبح الألفاظ حين طالبت بتأنيث محلات بيع الملابس النسائية الداخلية قبل 40 عاما في 2010م، أي حين كان عمر والدتها عامين فقط!

كل هذا كان من الماضي الذي لم تعشه وهذا من فضل الله عليها، حمدت الله كثيرا أني عشت حتى أرى كل ذلك، واحتفلنا جميعا بها، فهي حفيدتي الأولى، ثم ذهبت عبر مشروع مسار للحرم المكي في أقل من 3 دقائق، فمكة التي أعرفها كانت قد تغيرت تماما وأصبحت من أفضل 3 مدن في العالم على مستوى الذكاء الصناعي والنقل اللوجستي، ولأني من (كبار المواطنين) المتقاعدين تم إدخالي إلى ساحة الحرم بكل يسر وسهولة، فسجدت لله أمام كعبته الغراء ذات الرداء الأسود المهيب، ونزلت دمعة الرضى والحمد على كل ما مر بي في حياتي وقطفت ثماره ولله الحمد.

ثم خرجت زفرتي الأخيرة وأنا في أطهر بقاع الدنيا، وأغمضت عيناي للأبد بعد أن سألت الله حسن الختام، وكنت أدعو الله دائما أن أموت ساجدا في الحرم أمام الكعبة، وانتهت رحلة بسام فتيني ورسالته في هذه الحياة، سائلا الله أن تكون باقي قصتي في جنة الفردوس، والتي أسأل الله أن أدخلها من باب الصابرين.

هذه النهاية الطبيعية للبشر لأننا لسنا مخلدين، وإنا لله وإنا إليه راجعـون.

BASSAM_FATINY@