غسان بن محمد عسيلان

ورحلت نور..!!

الاثنين - 22 نوفمبر 2021

Mon - 22 Nov 2021

تعلق البعض بشخصية «نور» في المسلسل التركي الشهير، وسنتكلم اليوم عن «نور» أخرى لكنها عربية هذه المرة!!

«نور» طفلة يتيمة.. مات أبوها وهي ما تزال جنينا في رحم الغيب؛ إذ في صباح أحد الأيام بعد شهر من زفاف والديها ترك الزوج زوجته ليذهب إلى المدينة حيث يريد أن يعمل ليكسب قوته وقوت زوجته ويؤمن مستقبل أسرته الجديدة، لكنه عاد في ظهيرة نفس اليوم جثة هامدة إثر حادث قطار مروع راح ضحيته العشرات من أبناء قريته والقرى المجاورة.

مزقت الفاجعة قلب الزوجة المسكينة، وسكن الحزن ضلوعها، وخيم على القرية كلها بعد أن فقدت عددا من شبابها الذين افترست أجسادهم عجلات القطار في برهة من الزمن!! وبعد رحيل زوجها رجعت الأرملة للعيش في منزل أسرتها المتواضع مع أمها المسنة وأخيها الشاب الذي يكاد يبدأ حياته العملية موظفا بسيطا في شركة صغيرة قريبة من قريته.

مرت الأيام والأرملة المسكينة لا تعلم أن هناك مخلوقا جديدا يتخلق بقدرة الله في أحشائها، وما هي إلا أسابيع قليلة حتى بدت علامات الحمل في الظهور عليها، كانت المرأة واهنة القوى ضعيفة الجسد غير راغبة في الحياة، ولا مقبلة عليها؛ ومر حملها مضنيا شاقا مرهقا، وأثناء الولادة لحقت بزوجها، ورحلت هي الأخرى بعد أن أهدت إلى الحياة الطفلة «نور» التي ولدت فاقدة لنعمة البصر!!

جاءت «نور» إلى الدنيا غير مرحب بها، ولم يحتف بها أحد، بل لم ينتبه لمولدها أحد؛ إذ انشغل الجميع بوفاة والدتها، لكن سبحان الله مقلب القلوب!! فما أن مرت ساعة الصدمة على فقدان الأم حتى انفتح قلب الجدة المسنة لهذه اليتيمة التي جاءت إلى الدنيا في ظروف قاسية دون أب أو أم!!

اكتشفت الجدة أن حفيدتها الوليدة مغمضة العينين دائما، فأخبرت خالها ليأخذها إلى الطبيب، وهناك تأتيه فاجعة أخرى إذ يبلغه الطبيب أن الوليدة عمياء واهنة الجسد وتحتاج لعناية كبيرة، فامتلأ قلب الشاب الصغير عطفا ورحمة وشفقة على هذه اليتيمة الكفيفة، وزاد تعلقه بها عقب وفاة جدتها بعد شهور قليلة، وكان لهذه الفتاة الأب والأم.

هكذا نشأت «نور» في كنف خالها الذي كفلها وقام بتربيتها وأحسن رعايتها، وكانت خالتها الوحيدة التي تسكن غير بعيد تستأذن زوجها وتذهب إلى منزل أخيها لتعتني بالفتاة «نور» وتعلمها وتدربها على القيام ببعض الأمور بنفسها، وسبحان الله كانت الفتاة حادة الذكاء جميلة الروح، خفيفة الظل، أنيقة نظيفة دائما رغم أنها لا تبصر، وكانت تخطف أنظار الجميع بعذب حديثها وحلو كلامها وجميل معشرها، ومن شدة ذكائها حفظت القرآن الكريم من خلال السماع والتكرار عبر إذاعة القرآن الكريم التي لا تغلق في منزل خالها حتى بعد أن تزوج وأنجب وأصبح لـ «نور» أخوة وأخوات!!

كبرت «نور» وأكملت تعليمها الثانوي بطريقة المكفوفين، وقررت الاكتفاء بهذا الحد من التعليم؛ إذ كانت تدرك أن قدرات خالها المادية لا تساعده على الاستمرار في الإنفاق على تعليمها أكثر من ذلك، وأرادت أن تعيش بقية حياتها خفيفة العبء على خالها وأسرته، ولم تكن تعلم ما تخبئه لها الأيام!!

تمنت «نور» أن تعيش بهدوء على هامش حياة خالها وأبنائه، لكن الله أراد لها أمرا آخر؛ إذ تقدم لخطبتها ابن خالتها «أحمد» الموظف البسيط في إحدى الدوائر الحكومية، لم يمانع أحد في زواجه منها، فقط طلبت منه والدته أن يتريث فيما هو مقبل عليه من قرار مهم ومصيري في حياته، فالفتاة التي يريد الزواج منها كفيفة، وقد تكون عبئا عليه في أشياء كثيرة تستلزمها مطالب الحياة!!

عزم «أحمد» على الزواج من «نور»، وقرر أن تكون رفيقة دربه في الحياة، وأنه سيكون عينيها التي تبصر بهما الدنيا، وسيكون سندها في رحلة العمر، ويكفيه منها خفة الروح، وطيب المعشر، وحلو الكلام.

مرت رحلة الحياة بأحمد ونور، ورزقهما الله أربعا من الفتيات اللاتي أنهين دراستهن الجامعية، وتزوجن وأنجبن ... ثم رحل والدهن «أحمد» وبعد سبعة أيام فقط لحقت به زوجته «نور» وكأن جسدها لم يحتمل الحياة دون دفء رفيق العمر الذي كان لها كل شيء!!

هذه قصة واقعية حكاها لي أحد أبناء هذه القرية، ومن خلالها ندرك مدى تفاهة ما يقدم في الدراما حاليا، فالحياة الحقيقية حافلة بقصص إنسانية مليئة بالعبر والعظات والجماليات الفنية التي يمكن تقديمها للناس في قالب جميل يخفف عنهم وطأة الحياة!!

GhassanOsailan@