نمر السحيمي

حق المواطن المكتسب والسلطة التقديرية

السبت - 13 نوفمبر 2021

Sat - 13 Nov 2021

(إذا تقدم مواطن مؤهل تأهيلا علميا عاليا بأوراقه العلمية والإدارية لمسابقة عامة أعلنت عنها مؤسسة من مؤسسات الدولة لأعمال سيادية ذات مكانة مهمة اجتماعيا؛ ثم استوفت هذه الأوراق كافة شروط الدخول في المسابقة؛ ومن ثم اجتاز هذا المواطن المقابلة العلمية والإدارية من بين مئات المتقدمين؛ ليفجع باستبعاده وإقصائه بلا أي مبرر شرعي أو إداري أو علمي أو نظامي)، هذا نموذج لحق مكتسب لمواطن ولا زال هذا الحق مهدرا لكنه لن يسقط.

فهل هذا الحق المكتسب الذي أعطاه الله للمواطن تستطيع أن تلغيه السلطة التقديرية البشرية لتلك المؤسسة؟ الجواب لا.. لأنه (حق مكتسب) فما هو هذا الحق المكتسب؟

عرف الفقه الحق المكتسب تعريفات متعددة، وهذه التعريفات تدور في معظمها حول معنى متقارب، إذ قد يقصد بالحق المكتسب أنه الحق الذي دخل في ذمة الشخص نهائيا بحيث لا يمكن نزعه منه إلا برضاه، أو هو الحق الذي يملك صاحبه المطالبة به والدفاع عنه، أو هو الحق الذي يقوم على سند قانوني، كما عُرِّف بأنه مصلحة للشخص يحميها القانون، بمعنى أن الشخص يستطيع أن يطالب به وأن يدافع عنه إذا ما نازعه فيه غيره، وعرف كذلك بأنه مصلحة يمكن للفرد طلب حمايتها.

والحق المكتسب في مثل هذه الحالة ليس طلب وظيفة كما يفهمه البعض؛ حيث يعبر بعض الباحثين عن الحق المكتسب بالحالة المكتسبة وهي مفهوم طوره عالم الأنثروبولوجيا رالف لينتون، حيث تشير الحالة المكتسبة إلى المكانة الاجتماعية التي يمكن أن ينالها المرء عن استحقاق؛ تلك المكانة التي يكتسبها، وهي تعكس المهارات والقدرات والجهود الشخصية، ومن أمثلة الحالات المكتسبة، وتعتبر تلك المكانة مهمة اجتماعيا لأنها تجلب معها مجموعة من الحقوق والالتزامات والسلوكيات.

وإن نظر مستشاري القضاء الإداري إلى إلغاء السلطة التقديرية البشرية لحق مكتسب منحه الله لمواطن هو نظر لا يلغي هذا الحق المكتسب؛ لأن ذلك النظر يتعارض مع نصوص شرعية ونظامية لا ترتقي أهواء البشر واختلاف أمزجتهم لإبطال حجّيتها.

ومن تلك النصوص الشرعية ما ورد عن أبي مسعود الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سلما، ولا يؤمن الرجلُ الرجلَ في سلطانه، ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه».

هذا النص يدل على حرص الشارع الحكيم على مهمة اختيار الكفؤ وإبعاد أهواء البشر عن هذه المهمة التي رتبها النبي صلى الله عليه وسلم ترتيبا لا تتدخل فيه أي سلطة تقديرية لفرد أو جماعة. ويؤيد ذلك ما نصت عليه المادتان السابعة والثامنة من النظام الأساسي للحكم بالمملكة.

وإذا رجعنا للبحث في السلطة التقديرية نجدها في دول العالم المتقدمة تتخذ في القرارات الإدارية ذات العلاقة بتحقيق الجودة في شركات المال والأعمال، ولم أجد لهذه السلطة ذكرا في قرارات المؤسسات الحكومية ذات الصفة الرسمية التي تدير المجتمع سياسيا وفكريا، بينما نتخذ هذه السلطة في بلادنا في مثل حالة الحق المكتسب المهدر الذي أشرت إليه متجاوزين كل القيم الإسلامية التي ترتقي بمهمة اختيار الكفؤ فوق مستوى أهواء النفس البشرية ورغباتها وجنوحها إلى الظلم وقهر الناس.

ولقد وصف أحد المستشارين السابقين في قضائنا الإداري ممن عٓرٓف استعمالات السلطة التقديرية عن قرب وقال: «إن السلطة التقديرية التي يحسبها الكثيرون امتيازا، ويستمتعون بممارستها، ويستخدمونها في كسب بعض المصالح أو تصفية بعض الحسابات الشخصية، إنها أعظم ابتلاء وامتحان يبتلي الله به من أسندت إليه تلك السلطة، لينظر الله إليه هل قام بحقها، واستعملها فيما وضعت له، وأقام بها العدل، أم أنه اتخذها مطية لأهوائه، ووسيلة لتحقيق مصالحه».

ثم يربط ذلك بالإيمان فيقول: «كما أن هذه السلطة تعتبر معيارا دقيقا وحساسا يقاس به إيمان الشخص بالله، وخوفه من الله، ومدى يقظة وحياة ضميره، وكلما كانت هذه السلطة أوسع وحدودها أوسع، كانت أعظم في الابتلاء، وأصدق في الدلالة على حياة القلب وإيمانه، ويقظة ضميره، أو موته وفساده».

إن السلطة التقديرية المزعومة التي أوقفت مسيرة الحالة التي ذكرت وأيدها القضاء الإداري قال عنها أحد مستشاري هذا القضاء: «إنه مهما بلغت قيود الأنظمة، ودقة رقابة الجهات الرقابية على أداء المسؤولين، لا يمكن أن تستطيع ضبط استعمالهم لما منحهم النظام من سلطة تقديرية يستطيعون استعمالها في تصرف أو قرار ظاهره فيه الرحمة وباطنه من قبله العذاب، وإذا لم يكن لهؤلاء المسؤولين وازع من دين وإيمان وضمير يحكمهم، فإنه وبكل بساطة لن يعجزوا عن التفلت عن قيود القوانين، ورقابة المراقبين، والعمل بما يتوافق مع هوى نفوسهم، ويخدم مصالحهم، باسم الشرع أو القانون».

وهذا الوصف يؤكد أن القضاء الإداري عاجز عن استعمال سلطته التقديرية في الحكم ضد سلطة المسؤولين التقديرية في مؤسساتنا العلمية والحكومية مهما كان حجم الظلم الناتج عن هذه السلطة، ومهما صادرت هذه السلطة من حقوق مكتسبة للمواطنين.

وختاما فإن هذا الوصف لهذا المستشار أو القاضي السابق في ديوان المظالم لتطبيقات السلطة التقديرية المستعملة في مؤسسات الدولة لهو دليل قاطع على أن تطبيقات السلطة التقديرية في مؤسساتنا الحكومية يجب أن تخضع للمراجعة؛ فلا يمكن أن تكون مؤسساتنا جاهزة للسير في مخطط رؤية المملكة 2030م وهناك مؤسسات ومجالس «تستعمل السلطة التقديرية وكأنها امتيازات شخصية ممنوحة لهم لتقريب من يحبون وإبعاد من يكرهون ونفع القريب والصديق والانتقام من الناس بدواعي الهوى. فلا إصلاح ولا إنجاز إلا بالعدل ولا عدل إلا بالاستعمال المتجرد للسلطة التقديرية للإدارة».

وبكل شفافية فإن السلطة التقديرية بهذا الشكل المشين ما هي إلا وسيلة من وسائل تصفية الحسابات، أو وسيلة لتنفيذ أجندة جماعات شاذة مخترقة لمؤسساتنا وتمارس إفسادها وتصفية الحسابات مع خصومها تحت ما منحته لهم الأنظمة من سلطة تقديرية؛ وإذ هي كذلك فالخاسر هو المجتمع الذي لن يجني من وراء ذلك سوى المزيد من الفساد، وعرقلة مسيرة التقدم والإصلاح.

alsuhaimi_ksa@