زيد الفضيل

ثروة

السبت - 06 نوفمبر 2021

Sat - 06 Nov 2021

كم هو حظيظ ذلك الذي يُنعم الله عليه بثروة في حياته؟ بل كم هو سعيد بوجودها بين يديه؟ فلا يخشى شيئا، ولا يخاف، ولا يقلق، فتطمئن نفسه في كنفها، وتمضي في طريقها بكل أمان وهدوء. حقا ما أجملها من ثروة تنتعش في جنباتها الروح، وما أحوج كل منا إليها لتستقيم حياته بالشكل الذي يأمله ويسعى إليه، ومن وهبه الله هذه الثروة فقد حباه الله خيرا وفيرا، وكان ممن دخلوا في قوله جل وعلا: {إنه كان بي حفيا}.

ترى ما هي هذه «الثروة» التي يُنعم الله بها على عباده؟ ما شكلها؟ ما لونها؟ ما هويتها؟ وكيف تكون؟ ومتى تكون؟ وأين تكون؟ ثم ما الطريق للوصول إليها؟ وما السبيل للمحافظة عليها؟ أسئلة عديدة تمخر في عباب النفس علَّ المرء يجد لها جوابا شافيا، ووَلَهٌ كامن في الفؤاد يدعو من يتفكر للتأمل في مكنون إجاباتها بذهن المجذوب وبصيرة العارف بنور الله، ليصل إلى السبيل المنشود الذي هو أمان لكل غارق، وسفينة نجاة لكل تائه. وما أجمله من إحساس صادق يتملك وعي من يصل إلى ثروته المنشودة، تلك التي ظل يبحث عنها في الآفاق، ويتفرس الوجوه والآكام علّه يستدل إلى طريقها، حتى إذا بلغ مراده استكانت نفسه، وهدأ زنين ذهنه، وتمتع بباقي حياته حامدا شاكرا داعيا {ربي أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه}.

إنها ثروة الفكر والمعرفة، وهي ثروة النفس والفؤاد، فما قيمة كل شيء دون نفس عالمة عارفة، وما أهمية كل مادة دون روح مفعمة بالحب، تواقة إلى بذل كل قول جميل وفعل لطيف لتسعد ذاتها أولا، وتفيض على من حولها بابتسامتها الصادقة التي من شأنها أن ترفع عنهم كل هم وغم، وتزيل عن كاهلهم كل كرب وكدر، وذلك والله هو الغاية العظمى من كل ثروة في الوجود.

كما أنها ثروة الروح التي يأنس إليها أحدنا حين تدلهم عليه الخطوب، ليجد روحا واعية مستوعبة وداعمة بقوة وثبات، فتأنس روحه ويشتد عزمه، ولله در تلك الروح الخالدة التي أحاطت بنفس حبيبها حين قدم إليها وجلا خائفا ترتعد فرائصه من هول ما بُلغ بحمله، ينشد الدفء والحنان بين يديها قائلا: زمّلوني، زملوني، ويخبرها بما رآه كاشفا لها باطمئنان عما شعر به من خشية، فما كان منها إلا أن أحاطته بذاتها وقلبها ووعيها لتقول له بكل ثبات: «كلا والله فلن يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكلَّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق». حقا ما أجملها من ثروة أنعم الله بها على حبيبه رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، فكانت خديجة الروح والريحان، النعمة والإحسان، السند والمعين والداعم بعطف وحنان وثبات لزوجها الذي اختاره الله ليكون خاتم أنبيائه، وظلت قائمة في وجدانه لم تتزحزح عن عرينها حتى لحق بها، فرضي الله عنها دائما وأبدا.

وهي ثروة الرفيق والصاحب الذي تأنس إلى مجاورته الروح، وتركن النفس متكئة عليه بكل ثبات ودون وجل أو خوف، تلك «الثروة» التي تبذل مودتها بصدق دون مقابل، وذلك الرفيق الذي تجده من خلفك وأمامك وعن يمينك وشمالك كلما احتجت إليه، ولله در أولئك الذين تسابقوا لرضا حبيبهم سيدنا محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- في حياته وبعد غيابه، فكان ثواب الله لهم في قوله تعالى: {قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتاها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم}.

وهي ثروة المال أيضا، ذلك الذي يحقق المراد، ويكون نعمة لصاحبه وليس نقمة عليه، إذ ما قيمة كل كنوز الدنيا وليس للمرء روح صادقة يأنس إليها دون مطمع أو رغبة دنيوية، ورفيق أمين يركن إليه دون غاية مادية. وكم من غني حباه الله بنعمة لا تزول لكنه يعيش فقيرا في داخله، محروما من متعة العطاء، حتى إذا ذهب لم يجد من يذكره أو يترحم عليه، وكم من فقير قُتر عليه رزقه، لكنه عاش غنيا بروحه وصفاء خلقه وعطائه، فلا يغيب عن وجدان محبيه حاضرا وغائبا.

إنها ثروة كل ثروة، وهي الثروة الحقيقية الصادقة التي ييسرها الله لكل صادق أمين وطَّن نفسه لتكون محبة معطاءة، فطوبى لكل من حظي بثروته في حياته وسكن إليها آمنا مطمئنا.