هند علي الغامدي

خدعوك فقالوا: «حب نفسك»!

الخميس - 14 أكتوبر 2021

Thu - 14 Oct 2021

هل هناك من لا يحب نفسه؟ من المؤكد أن هناك من لا يحترم نفسه، وهناك من لا يهتم بها، وهناك من يوردها موارد التهلكة.

أما الحب؛ فكل إنسان يحب نفسه، ولكن بطريقته، ومن الحبّ ما قتل؛ فالذين ينتحرون ويغادرون الحياة برمتها يغادرونها حبا بأنفسهم! نعم حبا بأنفسهم؛ لأن الحياة لم تحقق لهم الرضا الذي لا تحيا النفس سعيدة بدونه مهما امتلكت من متع الحياة.

تعالت في الآونة الأخيرة الأصوات التي تنادي بمحبة النفس، وتوجه رسالتها إلى المرأة والرجل على حد سواء، وبكل أسف هناك من يتأثرون بتلك الأصوات تأثرا سلبيا، ويجدون فيها خلاصا من المسؤوليات والواجبات التي تكبل حرياتهم، وتمنعهم من ممارسة حياتهم كما يحلمون.

المشكلة أن بعض أولئك الذين ينادون بمحبة النفس ينطلقون من أمور عجيبة، فإذا رأوا أما مهتمة بأبنائها، قالوا لها: أحبي نفسك؛ أحضري من ينوب عنك في أمور رعاية أبنائك وتربيتهم وتعليمهم وإطعامهم؛ فمن حقك أن يكون لك وقتك للاعتناء بنفسك وتدليلها في أماكن التجميل والاسترخاء والاستراحات والزيارات والتسوق والتنزه والسفر وغيرها؛ فصدقت وخرجت تاركة الأبناء والبيت بمن فيه، وأحضرت من ينوب عنها في كل مسؤولياتها تجاههم؛ غاب الدفء عن المنزل وغابت روح الأمومة، وأصبحت مهامها وظائف تؤدى وأجورا تقبض. لا بأس بذلك إن اختارت الأم أن تفعله وتتحمل مسؤولية اختيارها في الدنيا والآخرة، بشرط ألا يكون تحت مظلة حب النفس، وألا يكون ثمن هذا أي أذى يلحق بمن تقع مسؤوليتهم على عاتقها؛ إذ هنا لابد من تدخل المجتمع والدولة لحمايتهم.

وكذلك قالوا له أحب نفسَك واشتر راحة بالك، اخرج كما خرجت ولا تتدخل في شيء، وأحضر سائقا يوصل عائلتك ويرافقهم إلى كل مكان؛ المستشفى، الزيارات، عيادة المريض، النزهة ليلا ونهارا وغيره؛ فتباعد أفراد العائلة وذابت المودة والرحمة بينهم تحت مسمى حب النفس.

قالوا له أحب نفسك؛ لا تسمع شكوى، لا تفرج كربا، لا تغث ملهوفا ولا تعن محتاجا، لا تتحمل أحدا؛ لا قريبا ولا بعيدا؛ فكل هؤلاء طاقة سلبية، وأنت لست مسؤولا عن سعادة الكون.

أحب نفسك وقل لها أنا أستحق حياة أسعد، وأصدقاء أفضل، وزوجة أحسن، ولا بأس بترك زوجتك بعد عشرة العمر، لأنك تستحق الأفضل! ومثل ذلك قالوا لها.

أي حب هذا؟! أيّ نفس هذه؟! هذه النفس التي تتنصل من مسؤولياتها، ولا تؤدي واجباتها، لا تضحي، ولا تنصت، لا تتفهم، ولا تغيث، لا تنصر، ولا تعفو، لا تسامح، ولا تبذل من أجل الآخرين؟ أي قيمة لنفس لا تعرف الإيثار، وليس لها أمان، ولا يرجى منها خير؟

على العكس؛ يمكن أن نقول كيف يمكن أن يحب الإنسان هذه النفس؟ اهتم بنفسك وتجاوزا أحبها؛ ولكن الحب الحقيقي الذي يسمو بها ويزكيها؛ لتسعد وتسعد من حولها، وتكون كالغيث الذي ينفع ولا يضر.

الحب الذي يتجلى في الامتثال لقوله تعالى: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾، وفي استحقاقك الشعور الذي يولده الإيثار في نفسك، وثناء الله عليك في قوله تعالى: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾.  الحب الحقيقي للنفس هو الذي يجعلك تفضل أجر الله حين تتنازل وتعفو وتصفح وتسامح على المكاسب التي يمكن أن تنالها إذا لم تفعل.

الحب الحقيقي للنفس أن تؤدي واجباتك وتتحمل مسؤولياتك وتكون لبنة من لبنات صلاح أسرتك ومجتمعك ووطنك؛ ممتثلا لقول نبيك ﷺ «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته».

أن تعطي الحب والاهتمام والرحمة وتتلقاها فتكون -كما بين ﷺ- للمؤمنين كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا، علاقتك بهم كعلاقة الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.

أن تربأ بنفسك عن مواطن الخزي والعار، وأن تترفع بها عن الكذب والغش والخداع والنفاق والخيانة والأخلاق السيئة، أن تحميها من ارتكاب الأخطاء بتجنيبها مواطن الزلل، وإبعادها عن رفقة السوء وجلسائه، أن تكون قدوة صالحة لأبنائك ومن حولك، ونموذجا مشرفا لكل من تنتمي إليهم.

الحب الحقيقي أن تعمر الأرض كما أمر الله، تضع الآخرة نصب عينيك، وفي الوقت نفسه تأخذ نصيبك من الدنيا مهتما بنفسك؛ محبا إياها بطريقة صحيحة مكللة بالإحسان، توازن بين القيام بالواجبات وتحمل المسؤوليات وعدم التفريط بالحقوق؛ فالحياة محطة، والاختبار فيها قد يكون صعبا، ولكن عاقبة الاجتهاد في اجتيازه مذهلة -بإذن الله- في الدنيا والآخرة.

hindali1000@