مها الحريب

الإسعافات الأولية النفسية.. ألم يحن الوقت لتعلمها؟

الأربعاء - 13 أكتوبر 2021

Wed - 13 Oct 2021

أن تعمل في مهنة الأخصائي النفسي فأنت تختار خيارا ليس سهلا أبدا، وطريقا ليس معبدا، مهنة يجب عليك وأنت تمارسها أن تخلع كل معتقداتك الشخصية ومبادئك وأحكامك قبل أن تدخل العيادة وتقابل المراجعين.. أن تطوع نفسك وتهذبها لتكون قادرا على تقبل كل شيء وأي شيء قد يقال لك دون أن تحكم على قائله أو تقلل منه أو تنتقده.

أن تخرج من بيئتك وإطار مجتمعك الذي ألفت عليه لتقف على مشارف دنيا جديدة مختلفة عما اعتدت عليه في محيطك، أطياف مختلفة من البشر، أمزجة متعددة وثقافات مغايرة وعادات قد لا تشبهك.. أن تتعلم أن تتعاطف دون أن تغوص في الحالة الشعورية لمن يجلس أمامك، أن تقدر حجم ألمه وجهوده الحثيثة للتعامل مع طوفان أفكاره ومشاعره وسلوكياته وأن تفهم ما وراء ذلك كله.

أن تتعلم كيف تحترم خصوصية عملائك وتقدر لهم ثقتهم، كيف فتحوا لك صفحات حياتهم بكل ما فيها من تعثرات وأوجاع وخيبات وجروح لم يفلح الزمن في مداواتها.

أن تبحث باستمرار عما يفيد حالاتك ويصل بك الحال أن تلهج بالدعاء في صلواتك لتطلب من الله أن يلطف بأحوالهم ويعينهم على صراعاتهم ويمنحهم القوة والثبات؛ لأنك وحدك تدرك مقدار معاناتهم.

كنت أفكر وأتأمل كيف يتشكل الاضطراب النفسي كيف يصبح الناس أقل هشاشة وصلابة أمام الصدمات والمواقف المؤلمة، كيف يتسلل الاكتئاب أو القلق لحياتهم فيغيرها ويمسك زمام قيادة أفكارهم ويوجه سلوكياتهم.

كيف تحفر الصدمات في قلوبهم آثارا لا تنسى وإن تطاولت السنون، كيف لذكرى قديمة تفرض نفسها في كل يوم جديد بذات الشعور والصور والمواقف وكأن صاحبها يحياها كل يوم، ويصل به الحال لينطق جسده بمرض أو آخر وكأن للجسد ذاكرة تختزل كل أوجاعه وتترجمها بشكل مختلف.

ما كان يثير انتباهي كيف تؤثر الصدمات في حياة الأشخاص وكيف يتفاوتون في التعافي منها وتجاوزها لا أتحدث عن صلابة البعض النفسية وقدرته على إدارة أزماته الحياتية رغم أثرها الكبير ودورها الفعال؛ لكن كنت أجد شيئا واحدا يتكرر في كل صدمة يتعافى منها شخص ما، أو على الأقل يستطيع تجاوزها بطريقة مقبولة دون أن تسلبه متعة حاضرة وتجعله سجين الماضي؛ فما الذي وجدته يا سادة؟

وجدت محيطا داعما.. واحتواء عاطفيا ومساحة للتعبير عن العواطف والمشاعر المصاحبة للصدمات مع تجنب اللوم أو إلقاء المسؤولية على عاتقه. كل هذه الملاحظات جعلتني أؤمن بضرورة حاجتنا كمجتمع لتعلم الإسعافات النفسية الأولية كيف نتعامل مع شخص عانى من الفقد مثلا؟ كنت أتعجب حين أرى من يطلبون من ذوي المتوفي ألا يبكوا أو يعبروا عن مشاعرهم رغم أن النبي عليه السلام عبر عن مشاعره وألمه وذرف الدموع على أبنائه.

ويزداد عجبي حين أرى من يواسون مصدوما بأنه أفضل من غيره، وأن مصيبته تهون عند مصائب الآخرين، الإنسان في لحظات الألم والصدمة لا يحتاج للتنظير ولا للنصائح هو يحتاج للدعم وأن نخبره أن ما يمر به من مشاعر طبيعي في مثل هذه المواقف.

الإسعافات النفسية مهارات مهمة وضرورية نحتاج لتعلمها كما نتعلم الإسعافات الأولية حين يصاب أحدهم بجرح أو يبتلع طفل شيئا ما، حين نتعامل مع صدماتنا بشكل جيد في البداية نصبح أكثر قدرة على التعافي منها دون أن تتفاقم وتظهر على شكل اضطرابات نفسيه مختلفة.

ومع النقلة النوعية في مناهج التعليم أراها ضرورة أن تضمن هذه المهارات ضمن ما يتعلمه كل طالب وطالبة في المدرسة وضمن البرامج التوعوية لكافة أفراد المجتمع حتى نقلل من أثر الصدمات النفسية ونكون كأفراد وأسر قادرين على احتواء من يعاني.

أن يتعلم الوالدان التغيرات النفسية والجسدية التي قد يعاني منها أبناؤهم في حال تعرضهم لمواقف صادمة، أن يدركوا أن التدخل المبكر والقدرة على إدارة الأزمات يجعل ضررها أقل، الإسعافات النفسية الأولية حاجة ملحة في وقتنا الراهن وأولية لابد من الاهتمام بها لنحافظ على الصحة النفسية للجميع، الإسعافات النفسية ثقافة لابد أن تنتشر ويتشربها المجتمع.. فالوقاية خير من العلاج. دمتم بصلابة وصحه نفسية جيدة.

maha_m4@