ياسر عمر سندي

اللون الأبيض يصنع اليوم الأسود

الأربعاء - 06 أكتوبر 2021

Wed - 06 Oct 2021

كثيرا ما يقال إن اللون الأبيض هو العنوان الحقيقي للنقاء وفي بعض الثقافات يتم إطلاق طيور الحمام الأبيض لإظهار رمزية السلام العام؛ كما أنه في حال الاستسلام يلوح المستسلم بقطعة من القماش أو يعلق الشال الأبيض للتأكيد على انتهاء التوتر ووقف الصراع للدلالة على حسن النية؛ كما يعتبر اللون الأبيض من الألوان المحايدة التي تتناسب مع جميع الألوان الأخرى تقريبا، وغالبا ما يرتبط البياض بالسعادة والفرح، ولهذا يفضل الفتيات ارتداء الفساتين البيضاء في يوم أو ليلة الزفاف؛ كما أن لون الورد الأبيض تحديدا في التهادي يرمز إلى الطهارة وقدسية الروابط وعمق العلاقات وربما يدل على فتح الصفحات البيضاء الجديدة إذا ما تم تعكير صفوها لأي خلاف.

ارتبط اللون الأبيض كذلك بعمل الأطباء وطاقم التمريض لبث الشعور بالارتياح النفسي للمراجعين والمرضى بالمستشفيات، مثلما أن صاحب الشخصية المحبة للون الأبيض والذي يفضل إدخاله بصفة عامة على ملابسه وما يستخدمه مثل سيارته وأثاث مكتبه ومنزله يفسره التحليل النفسي على الهدوء والاتزان النفسي والاستقرار العاطفي، واللون الأبيض في الثقافة الإسلامية لأداء بعض الشعائر الدينية كالحج والعمرة في ارتداء الإحرام انعكاس على الصفاء الداخلي للنفس في هذا الموقف مثل التواضع والطيبة والخلو من الشوائب كالأحقاد والعنصرية.

ما تم استعراضه من معلومات قد تبدو طبيعية وربما معروفة لدى الكثيرين، ولكن هل ورد في ذهن أي أحد أن هذا اللون النقي الذي يحمل رمزية الخير هو في نفس الوقت يتم تسخيره للشر ويصبح أسلوبا وأداة تستخدم في التعذيب بل وإسقاط أشد أنواع الألم وهي العقوبة المعنوية بإيقاع الأذى على الإنسان في تدمير نفسيته إلى أبعد الحدود.

التعذيب باللون الأبيض هو نوع من أنواع التعذيب اللا إنساني المستخدم والذي يتسبب بما يسمى علميا بـ «الحرمان الحسي» وفكرة هذا التعذيب أن يتم عزل السجين في غرفة بيضاء مغلقة تماما، هي في الأساس زنزانة داخل سجن كبير يتم طلاء جدرانها وبوابتها وأرضيتها ومقعد دورة المياه الداخلي وحتى ألوان الإضاءات باللون الأبيض وغطاءات السرير والمخدات وملابس السجين وحذاءه؛ وكذلك أطباق الطعام ونوعيته يتم تكثيف الأرز الأبيض على مكوناته؛ وإذا احتاج السجين إلى قلم أو ورقة يجب أن تكون جميعها باللون الأبيض؛ ويتعدى الأمر إلى حد أن حراس الزنزانة يلبسون الأبيض العام مع تغطية وجوههم بأقنعة بيضاء؛ مع الأخذ في الحسبان ألا يتم إصدار أي صوت لدرجة أن يستشعر السجين بشهيقه وزفيره ويكاد أن يعده عدا؛ علما بأنه لا يتم استخدام أدوات الضرب أو إسقاط التعذيب الجسدي تماما.

هذه العزلة من اللون الأبيض العارم مع شدة الهدوء الطاغي تشكل هالة سوداوية عامة وضجيجا صامتا على مدار أشهر متوالية تؤدي إلى إرهاق السجين فكريا ونفسيا وتوصله لحالة من اليأس والإحباط وفقد للذائقة الحسية والمتعة المادية لأي شيء بسبب ما يترجمه الدماغ البشري من الرسائل الواردة في هذه الحالة والتي أشبهها بالانكماش الداخلي والضمور لنظام المخ المركزي في إعطاء الأوامر العامة للجسم بأكمله وعندما ترى العين كل شيء أبيض في محيطها وحدودها؛ يؤدي ذلك إلى فقد الإحساس تدريجيا في كل مرحلة مما يتسبب في انتكاسات هي ارتدادات لا شعورية يقاوم فيها مركز التحكم في المخ إلى أن يصل إلى درجة الانحسار والاحتضار في أوامره الصادرة والتي تؤدي في نهاية الأمر إلى تلاشي الذاكرة الشخصية المكانية والزمانية القريبة والبعيدة فينتاب السجين نوع من التشتت والتوهان لينسى هويته ونفسه وملامح أسرته وأفراد عائلته وأصدقائه.

عام 2004 أصدرت منظمة العفو الدولية تقريرا أكدت فيه بأن التعذيب باللون الأبيض وقع فعليا وأدى للحرمان الحسي والرهاب النفسي اللذين لا ينفكان عن الفرد ولن يعود إلى حالته الطبيعية السابقة بحسب آراء المختصين النفسيين؛ لأن اللون الأبيض يصنع اليوم الأسود أحيانا.

@Yos123Omar