مدينة الفصحى ومتلازمة الأحلام المفرطة!

دعيت ضمن عدد من المتخصصين في اللغة العربية إلى حفل خاص للتعريف (بمدينة الفصحى) وبعد انتظار نسبي، دخل رجل نحيل يلبس بشتا واسعا، لا يخفى أنه حديث عهد بالبشت، شاربه ولحيته مرتبة وبشرته صقيلة صافية تلتمع عليها الإضاءة، لم أعرفه إلا بصوته حين رد السلام فكان الشاب السبعيني مصلح، يتبعه ثلاثة رجال جلس اثنان عن يمينه وعن شماله ووقف الثالث خلفه.

صمتنا نتأمله، وهو يهمس لمرافقه، ثم دفع الفضول تهامسنا، فكيف تحول مصلح بهذه السرعة وصار شيخا يتصدر المجالس، قطع المقدم حديثنا حين قال: (السلام الوطني السعودي) فوقفنا جميعا، ثم قدم الحفل بعبارات إنشائية لم تفدنا بشيء عن مدينة الفصحى، وتلي القرآن، ونادى الشيخ مصلح لإلقاء كلمته، وفي أثناء ذلك سألت الجالس جواري، (كيف أصبح مصلح بهذه الأهمية؟) فقال هامسا: (معقول ما تدري؟!) يقال أن الشيخ مصلح كان الوريث الوحيد لعمه (هامور سوا) شايع دخون، فقاطعنا نفخ مصلح في مكبر الصوت:

تنحنح وقال بصوت خافت متأن: الحمد لله رب العالمين، ولا سلام على أعداء الفصحى الخائبين، فقد أكرمنا الله بعد لأي وشطط، وأظهرنا عليهم، ونحن عازمون أن نضع بصمة مضيئة في جبين العالم، بصمة ستظل الأجيال تتحدث عنها، وقد دعوناكم بهذه المناسبة؛ لنعرض عليكم وتشاهدون (مدينة الفصحى)، وتكونوا شركاء في المنجز نقدا وتقويما وعملا واستشارة، فالتفت إلى الشاشة الكبرى التي تعرض مخططات مشروعه، وهو يعلق قائلا: (مدينة الفصحى وما أدراك ما مدينة الفصحى) هي مدينة متكاملة المرافق والخدمات تحوي 1000 وحدة سكنية وبها ثلاث حدائق صغرى وحديقتان كبيرتان، وخمسة مساجد وخمسة أسواق متنوعة ومدارس لجميع المراحل، ومركزان رياضيان، ومركز ثقافي ترفيهي، ومستوصف وكلية للغة العربية وآدابها، وقد جهزناها بأنظمة الأمن والسلامة، ومنعنا دخول السيارات، وأنشأنا مركز شرطة اللغة، وظيفته تلقي بلاغات الأخطاء أو التحدث بغير الفصحى، يحيل المتهمين إلى محكمة اللغة التي اخترنا لها أعدل القضاة.

رفعت يدي للحديث، فنظر إليّ وتجاهلني، ثم استمر: هذه المدينة ستستقطب كل الراغبين في تعلم العربية من كافة أرجاء العالم، وقد خصصنا 100 وحدة سكنية للعائلات السعودية الفصيحة تستضيف الطلاب والطالبات، وهذه الأسر غالبا ستكون من الموظفين في المدينة من غير المعلمين، وسنعلن عن استقبال الطلبات قريبا للمعلمين والأسر وكل الوظائف، وشرطنا الرئيس إجادة العربية تحدثا وكتابة لكل الوظائف، فمدينتنا لا يسكنها إلا الفصحاء، ومن تسجل عليه ثلاثة محاضر لتحدثه بغير العربية أو خمسة محاضر أخطاء لغوية أو نحوية سيطرد منها غير مأسوف عليه.

أيها اللغويون والأدباء: من يجد في نفسه الكفاءة منكم لأي من هذه الفرص الوظيفية، فليسجل رقمه الآن في النموذج الخاص بهذه المناسبة، فلكم الأولية، فسننتخب منكم لجانا للفرز، ثم ضحك وأشار بإصبعه محذرا: أنبهكم، وأحذركم، أننا لن نقبل أحدا إلا بعد خضوعه (للمسح اللغوي) الذي ستجريه شرطة اللغة على حساباتكم الالكترونية، فمن وجدنا لديه أخطاء لغوية أو نحوية أو إملائية، أو مصطلحات أجنبية، فلن نقبله، أهلا بكم في مدينة الأحلام (مدينة الفصحى)، ولا تتحركوا من أماكنكم حتى تتناولوا كوبا من الشعر، وقطعة سمينة من (ظهرة) النثر، فأهلا ومرحبا بكم!

انطفأت الشاشة فجأة، فانفعل مصلح: وهاجم بصوته الحاد المرافق المسؤول عنها، فخرج عن طوره ونزل من المنصة مسرعا، وأثناء نزوله من الدرج تعثر في طرف بشته فسقط، يئن من الألم، فوقفنا جميعا وهرع أحد القريبين لمساعدته، لكن المرافقين منعوه، فصعد أكبرهم المنصة وقال: أخوكم البروفيسور النفسي أبو عمرو بن الفراهيدي، أنتم جميعا تحبون مصلح، وهو يخضع لعلاج نفسي مكثف منذ ستة أشهر في مستشفى (شهار)؛ يعاني من نوبات (متلازمة الأحلام المفرطة)، نشكراستجابتكم للدعوة، فهي من صميم برنامج العلاج وقد أحرز نقاطا مهمة، ونأسف لأننا لم نخطركم أن هذه الجلسة كانت من (السيكودراما) فقد خشينا تغيبكم، لكنكم أديتم دوركم مشكورين، فالتفتنا إلى بعضنا وقلنا: خذنا مع مصلح يا ابن الفراهيدي!

ahmad_helali@