حامد بن سليمان العيسى

ملامح نظام التنفيذ أمام ديوان المظالم

السبت - 02 أكتوبر 2021

Sat - 02 Oct 2021

تخيل معي عزيزي القارئ أن شخصا له حق ما، وقام برفع دعوى ووكل محاميا ليحضر الجلسات ويعد المذكرات ويعترض على الأحكام وغيرها من صور المرافعات وغايته فقط استيفاء هذا الحق، وبعد سنوات نجح في الحصول على حكم قضائي، ولكن! قد يكون مآل الحكم أن يكون كالحبر على الورق فلا ينعكس على واقع ملموس ولا يرد له حقه المطلوب، فيتعذر أو يتأخر كثيرا تنفيذ حكمه «النهائي» أو لا يجد آلية فعالة تكفل له استيفاء هذا الحكم وما احتواه من حق. لا أقول إن هذا هو الحال الشائع ولكن واجه كثير من الأشخاص مثل هذه التجربة، بما في ذلك الجهات الحكومية وغيرهم من الأشخاص الاعتياديين كالمواطنين والمقيمين والشركات وغيرهم.

لا شك أن غاية الأحكام القضائية والسندات التنفيذية عموما هي إحداث الأثر وأن تنعكس في واقع البشر، وإلا فلا فائدة من رفع الدعاوى وإصدار السندات التنفيذية إذا كان الحكم أو السند لن ينفذ، والمحصلة هي: (مكانك سر!).

كانت السندات التنفيذية -ومنها الأحكام القضائية- التي تكون الجهات الإدارية - وأعني هنا الجهات الحكومية عموما- طرفا فيها محل إشكال تاريخي في المملكة؛ فالكثير صدرت لصالحهم أحكام ضد الجهات الإدارية ولم تنفذ ولم ينعكس منطوقها في واقع حياتهم بسبب عدم وجود آلية نظامية فعالة وواضحة تكفل تنفيذ هذه الأحكام ضد الجهات الحكومية، إلا من خلال الرفع لأمير المنطقة -طبقا لنظام المناطق- لتنفيذ الأحكام وهو ما لم يحقق النتائج المرجوة، وقضاء ديوان المظالم ينأى عن التنفيذ باعتبار اختصاصه الضيق بموجب نظامه، بل وصدرت عدد من الأوامر لتحفيز تنفيذ السندات التنفيذية ضد الجهات الإدارية ومن ذلك الأمر السامي رقم (9624/م ب) لعام 1430هـ، إلا أن الكثير من تلك الجهات الإدارية إن امتنعت أو تقاعست عن التنفيذ فلا توجد آلية واضحة لإلزامها بالتنفيذ.

وكذلك الحال ينطبق على الجهات الإدارية، فلا يوجد لها آلية عملية وفعالة لتحصيل حقوق الدولة سوى نظام إيرادات الدولة والذي عجز عن تحصيل الإيرادات بسرعة وكفاءة لعدم وجود الأدوات النظامية الجبرية الفعالة، وفضلا عن ذلك ونتيجة لعدم التنظيم، ساد تنازع الاختصاص الولائي بين المحاكم؛ فقضاء التنفيذ يدفع بعدم اختصاصه بتنفيذ السندات التي تكون الجهات الإدارية طرفا فيها استنادا للمادة الثانية من نظام التنفيذ، وبنفس السياق يدفع قضاء ديوان المظالم بالمثل باعتبار أن السندات التنفيذية تختص بها محاكم التنفيذ. ومن الأمثلة على تلك الأحكام، حكم المحكمة الإدارية رقم (3464/ 1/ ق) لعام 1435هـ والمؤيد بالاستئناف رقم (2218/ ق) لعام 1439هـ وكذلك حكم محكمة الاستئناف بمنطقة القصيم والذي نقض حكم المحكمة الإدارية بالقصيم رقم (2312/7/ق) لعام 1437هـ، إلى أن صدر قرار الهيئة العامة بالمحكمة الإدارية العليا رقم (1) لعام 1441هـ والذي اعتبر المحاكم الإدارية مختصة بتنفيذ السندات التنفيذية الصادرة في القضايا الإدارية، ومع ذلك لم تتحقق الغاية المرجوة خصوصا مع عدم وجود الممكنات النظامية الواضحة من السلطة التنظيمية لقضاء الديوان كما هو متوفر لقضاء التنفيذ، وانقلب الحال -بعد ذلك- بازدواج في الاختصاص؛ فالمجلس الأعلى للقضاء العام قد شكل دائرتين في محكمة التنفيذ بالرياض تسمى بـ «دائرة العقود والامتيازات» والتي تنفذ فقط لصالح الجهات الإدارية دون الأشخاص الاعتياديين.

لم يكن الحال مقصورا على القضاء بل وصدرت عدد من الأوامر لتحفيز تحصيل ديون الدولة دون جدوى تذكر، وبالطبع تعقد معها تنازع الاختصاص، ومن تلك الأوامر: الأمر السامي رقم (34945) لعام 1438هـ والقاضي باعتبار العقود والامتيازات والمحررات والجزاءات المالية وأي مصدر آخر من الإيرادات المقررة نظاما الصادرة من الدولة لها قوة السند التنفيذي وفقا للمادة (9) من نظام التنفيذ؛ والذي نتج عنه تنازع باختصاص التنفيذ كما أسلفنا في الحديث عنه، وكذلك الأمر الملكي رقم (68098) وتاريخ 22/12/1441هـ والقاضي باقتصار التنفيذ لصالح الجهات الإدارية على رسوم الأراضي البيضاء. وهذا الحال -في عدم التنفيذ- ليس مقصورا فقط على الأحكام القضائية، بل وكذلك ينطبق على أحكام المحكمين والأوراق التجارية والعقود والمحررات الموثقة وغيرها من السندات التنفيذية التي تكون الجهات الإدارية طرفا فيها.

وبعد هذا الإشكال التاريخي، مؤخرا أصدر خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله- مرسومه الملكي الكريم رقم م/15 لعام 1443هـ والقاضي بالموافقة على (نظام التنفيذ أمام ديوان المظالم) والذي جاء منظما لإجراءات التنفيذ لصالح الأشخاص الاعتياديين ضد الجهات الإدارية والعكس، ليكون بذلك مساهما بتحصيل حقوق الكثير ممن عجزوا عن تحصيل حقوقهم من الجهات الإدارية بسبب ضعف الأدوات والممكنات النظامية لذلك، وهذا جاء نتيجة لما يوليه خادم الحرمين وسمو ولي عهده الأمين -حفظهما الله- من رغبة صادقة وحقيقية في تحقيق العدالة الناجزة، وكذلك لتوفير أفضل الممكنات النظامية للجهات الإدارية لتحصيل حقوقها وإيراداتها ممن عليهم ديون لصالح الدولة، وكل ذلك يتم تحت إشراف قضاء مستقل وليس له مصلحة من الجهات الإدارية (السلطة التنفيذية) أو الأشخاص الاعتياديين، ومن المعلوم في المملكة أن القضاء مستقل ولا سلطان عليه لغير سلطان الشريعة ومرجعه لرأس العدالة وهو الملك -حفظه الله- بوصفه مرجع السلطات الثلاث.

ومتوقع مع دخول النظام حيز النفاذ أن يحد من إشكالية تنازع الاختصاص -السلبي والإيجابي- وذلك لاختصاص دوائر التنفيذ بالديوان، وبموجب النظام سينشئ مجلس القضاء الإداري محاكم تنفيذ إدارية متخصصة، وسياسهم بإيجاد آلية تفصيلية واضحة للتنفيذ.

ومن أبرز معالم النظام أنه قد حدد السندات التنفيذية المشمولة ضمن اختصاص محاكم التنفيذ الإدارية والتي لا تختلف كثيرا عن السندات التنفيذية في نظام التنفيذ إلا أن جهة الإدارة طرف فيها بالإضافة لبعض الاختلافات الجزئية، بيد أن النظام اعتبر المحررات الموثقة التي تصدرها الجهات الإدارية سندا تنفيذيا، دون أن يحدد بالمقصود بالتوثيق وأحال لائحة لتحديد الأحكام المتعلقة بذلك، ومن جانبنا نأمل أن تراعي اللائحة أهمية عدم اعتبار أي محرر تصدره الجهة الإدارية -موثقا منها- سندا تنفيذيا؛ وإلا لأصبح للجهات الإدارية إصدار ما شاءت من سندات تنفيذية وطلب التنفيذ بموجبها دون اللجوء للقضاء للفصل في النزاعات موضوعا، وبذلك تلبس السلطة التنفيذية عباءة السلطة القضائية في تقرير الحقوق باعتبار أن السند التنفيذي له قوة الحكم القضائي في التنفيذ.

كذلك رسم النظام آلية التنفيذ لصالح الجهات الإدارية وضدها، فمن حيث التنفيذ ضد الجهات الإدارية يتم التنفيذ بإصدار إنذار -من القضاء- للجهة الإدارية للتنفيذ خلال مدة لا تتجاوز الثلاثين يوما، ومن ثم يصدر أمر من القضاء للتنفيذ. وقد يشمل ذلك أيضا القرارات الإدارية اللازمة للتنفيذ مثل أن يقوم الوزير بإصدار قرار دفع المستحقات أو الترقية أو غيرها من المسائل الإدارية، وإن امتنعت الجهة الإدارية فتبلغ الجهات الرقابية -والتي قد تشمل هيئة الرقابة ومكافحة الفساد (نزاهة)- لمباشرة الإجراءات الجزائية من تحقيق وإقامة الدعوى الجزائية ضد المتسبب بعدم التنفيذ. أما من حيث تنفيذ السندات التنفيذية التي يكون موضوعها أداء ماليا؛ فيجوز للقضاء أن يوجه أمر التنفيذ لوزارة المالية مباشرة على أن تكون الجهة الإدارية قد استوفت ما تختص به من إجراءات دون أن ينفذ السند بسبب يعود لوزارة المالية كعدم وجود المبالغ اللازمة أو أنها خارج حدود ميزانيتها. كما ويمكن للقضاء أن يقوم بإرشاد الجهة الإدارية في كيفية التنفيذ وما يلزمها من إجراءات للوصول للغاية المطلوبة.

ولاستيفاء حقوق الأشخاص الاعتياديين ضد الجهات الحكومية وللتشديد على اقتضاء الحقوق؛ جرم النظام استغلال الموظف العام لنفوذه أو سلطته الوظيفية لمنع التنفيذ بقصد تعطيله وفرض عقوبة تصل لسبع سنوات وغرامة تصل إلى 700 ألف ريال أو أحدهما، وكذلك جرم امتناع الموظف المختص بالتنفيذ عن تنفيذ السند بقصد تعطيل التنفيذ بعد مضي ثمانية أيام من تبليغه بالإنذار، واعتبر النظام هذه الجرائم من جرائم الفساد والجرائم الكبيرة الموجبة للتوقيف، كما أجاز النظام لدائرة التنفيذ عند التأخر في تنفيذ أي سند -عدا اقتضاء المبالغ المالية- أن تفرض غرامة لا تزيد على عشرة آلاف ريال على المنفذ ضده عن كل يوم يمضي دون إتمام التنفيذ، وتستحق هذه الغرامة لطالب التنفيذ، وهذه الغرامة قد تفرض لصالح الأشخاص الاعتياديين وقد تفرض لصالح الجهات الإدارية كوسيلة للتنفيذ وجبرا للضرر.

أما بالنسبة للتنفيذ لصالح الجهات الحكومية، فحقيقة الأمر أن النظام مكن الجهات الإدارية أكثر من غيرها للتنفيذ، فمثلا إن كان التنفيذ ضد شخص اعتيادي تأمر دائرة التنفيذ بالإفصاح عن أموال المنفذ ضده وحجزها -كما الحال في قضاء التنفيذ الاعتيادي- بما في ذلك مستحقاته لدى الجهات الإدارية، ومن وسائل الإكراه للتنفيذ -التي تكون لصالح الجهات الإدارية- منع المنفذ ضده من السفر، أو منع الجهات الإدارية والمنشآت المالية من التعامل معه.

ومن الملاحظ هنا أن النظام لم ينص على الحبس التنفيذي كوسيلة للتنفيذ، وفي ذلك إشارة لتغير توجه المنظم في اعتبار الحبس وسيلة إكراه للتنفيذ، وقد نشهد تغييرا لنظام التنفيذ في هذا الشأن. ومن المعقول أن يكون للجهات الإدارية الحظوة في التنفيذ لعدة أسباب، ومنها: أن لأموال الدولة حرمة ولا يُمكن الحجز عليها، ومن غير المنطقي أن تمنع من التعامل مع المنشآت المالية أو الجهات الإدارية الأخرى لما في ذلك من تعطل للمصلحة العامة ككل؛ لأن الجهات الإدارية ترعى الصالح العام وتدير العديد من المرافق العامة، على عكس الأشخاص الاعتياديين كأصل عام.

جدير ذكره أن النظام أكد على احترام مبدأ المشروعية واحترام قوة الشيء المقضي به، ومفاد ذلك أن الأحكام تنفذ بمبادرة ممن حكم عليه دون حاجة للجوء للقضاء ونعني هنا التنفيذ الطوعي لا الجبري، ومع ذلك إن أراد طالب التنفيذ -جهة إدارة كان أو شخصا اعتياديا- اللجوء للقضاء فيلزم أن يطالب بأداء الحق قبل إقامة الطلب، ويلزم أن تكون المطالبة خلال عشر سنوات من تاريخ نشوء الحق أو اكتساب الحكم الصفة النهائية وإلا لن يتم قبول طلب التنفيذ لفوات المدة، وفي هذه الحالة سيعود طالب التنفيذ للخيارات المتاحة له لتحصيل حقه -قبل صدور النظام- إما عن طريق نظام إيرادات الدولة أو نظام المناطق -بحسب الحال- لأن نصوص هذه الأنظمة لم تلغ، كما أن فوات المدة لا يترتب عليه انقضاء الالتزام بل فقط عدم قبول طلب التنفيذ لدى قضاء الديوان وفي هذا الموضوع تفصيل قد أتطرق له في مقالة أخرى منفصلة بمشيئة الله.

أخيرا، لم يدخل النظام حيز النفاذ بعد، وسيعتبر نافذا بناء على قرار من مجلس القضاء الإداري في مدة لا تتجاوز السنتين من تاريخ نشره، حيث إنه من المتوقع أن يستعد ديوان المظالم لذلك بإيجاد بنى تحتية وتقنيات وتشكيل للمحاكم واستحداث وظائف لمباشرة مهامه المنصوص عليها في النظام. ومتوقع أن الديوان سيشهد العديد من طلبات التنفيذ منذ لحظة دخول النظام حيز النفاذ، ليكون بذلك عاملا فعالا في إنهاء تعطل استيفاء الحقوق وتنازع الاختصاص بمشيئة الله، ومحققا بذلك أهم مقاصد المشروعية حيث الحكم الشافي والحق الوافي.

@Aleisahamed