زيد الفضيل

التراث وجسر العبور للمستقبل

السبت - 02 أكتوبر 2021

Sat - 02 Oct 2021

تحتفي المملكة العربية السعودية خلال هذه الأيام بمعرض الرياض الدولي للكتاب في حلته الجديدة وفعالياته المتنوعة التي تعكس حالة وحجم التغيير الثقافي الحاصل منذ عدة سنوات بفضل جهود سمو ولي العهد الأمير التنويري محمد بن سلمان، ورعاية عراب الثقافة والمعرفة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز.

ولعل من كمال سعادتي أن أكون أحد المتشرفين بالمشاركة في فعالياته من خلال تقديم ورشة عمل بعنوان «التراث والمستقبل» في 7 أكتوبر بحوله وقوته، وما أجمل أن يكون التراث حاضرا كغيره من فنون المعرفة وأفانين الثقافة في هذا الكرنفال الكبير القائم حاليا بواجهة الرياض الحديثة.

وواقع الحال فحال دعوتي وإبلاغي بعنوان المحاضرة أخذت أفكر وأتأمل مليا في: ماذا أقول؟ وعن أي تراث أتحدث؟ وأنا الذي شغل نفسه سنوات طويلة بموضوع توثيق التراث وحمايته ثم ربطه بالواقع المعاصر، إيمانا مني بأنه أساس لهويتنا الوطنية والقومية، وأول مدماك نواجه به غول العولمة الماسخ لذواتنا، ولعمري فذلك أشنع وبالا علينا من الموت.

والسؤال: كيف نحمي أنفسنا من الوقوع في شرك العولمة السلبي؟ وبأي سبيل سنخوض طريق المستقبل ونواجه تحدياته المختلفة؟

حتما الأمر ليس سهلا كما يتصور البعض، وليست القضية قاصرة على حالة الذوبان والانخراط في عوالم الحياة كما هي وفق (كتلوجها) كما يقول به البعض الآخر؛ ذلك أننا كأمة عربية بحضارة مسلمة نختلف عن غيرنا من الأمم، حيث تشكلت لنا هوية حضارية يصعب التخلي عنها، حتى أنها قد باتت علامة مرقومة لدى إخواننا من مسيحيي الشرق، الذين لم يستنكفوا الدخول فيها وتبني مفرداتها، إيمانا منهم بأنها جزء من هويتهم الثقافية.

في هذا السياق أشير إلى أن أحد أكبر إشكالاتنا المعرفية اليوم مرتكزة حول تبني المثقف العربي المعاصر بعمومه سياقا آخر لبلوغ حداثته، ودون أن يدرك أهمية أن يصنع سياقه المعرفي الخاص، ويبادر إلى بناء جسر عبوره المنطلق من تكوينه الذهني ومدماكه التراثي، كما فعل ذلك المثقف الأوروبي الذي تمكن من بناء جسر عبوره بمتانة واقتدار، وبالتالي فعصي على الآخرين عبوره لاختلاف المكان والزمان الذهني أولا وأخيرا، وذلك هو لب الإشكال.

ابتدأ السياق الأوروبي للنهضة المعرفية بمحاربة الظلام الدامس الناتج عن سيطرة مفاهيم الكهنوت الكنسي حتى مطلع القرن الخامس عشر الميلادي، الذي تغير فيه الحال جراء حالة التأثير الإيجابي التي اقتبسها المثقف الأوروبي من تطور الحضارة العربية عبر معابر الاتصال الجغرافية، وكان ذلك إيذانا بابتداء ملامح عصر النهضة وظهور الدعوة للتحرر من سلطة الكهنوت وبداية الحرب بين المحتجين (البروتستانت) والكنيسة الكاثوليكية، ونتج عن ترجمة الكتاب المقدس وتبني أفكار الحضارة العربية انبثاق عالم الأنوار والخلوص إلى مرحلة نقد عالم الأنوار مع حلول القرن التاسع عشر، وفيه جرى تمتين أسس المعرفة وتنقيتها من كثير من الشوائب العلمية وهو ما أهلهم لبناء جسر العبور لبلوغ عصر الحداثة في القرن العشرين ودخول عصر ما بعد الحداثة.

أما سياقنا العربي للنهضة المعرفية فقد ابتدأ بالمرحلة الأمية قبل الإسلام، ثم بمرحلة بزوغ فجر المعرفة مع ظهور الدين الإسلامي ودعوته إلى إثارة السؤال وإعمال التدبر والتفكر، ثم مرحلة ولادة النهضة العربية بنقل المعرفة (الترجمة) خلال العهد الأموي ثم العباسي، واكتمال نضجها مع علماء المدرسة العقلية خلال القرون الوسطى ميلاديا، ليخلفها مرحلة ضمور مرعبة مع سيطرة علماء المدرسة النقلية على آفاق السلطة التي شاع فيها تغلب العسكر المماليك والترك وصولا إلى الدولة العثمانية، تلك التي تخلفت عن المشاركة في حركة الكشوف الجغرافية، والاعتراف بالطباعة، وامتنعت عن دعم المدرسة العقلية وإكمال مسيرة بيت الحكمة ودار الحكمة.

وكان أن أدى ذلك كله إلى الدخول في عصر الظلام وهو الموافق لعصر الأنوار في القارة الأوروبية، ثم وحين ابتدأنا دخول عصر النهضة من جديد مع بداية القرن التاسع عشر بتأثير فرنسي قادم مع حملة نابليون، ثم على عهد محمد علي باشا الذي أسس كلية الألسن للترجمة، وأنشأ المطبعة العربية، وأرسل البعثات الطلابية، إلا أننا لم نسلك الطريق الصحيح لبناء نهضتنا، لعدم اهتمام المثقف العربي في حينه بأن يشق طريقه الخاص الذي يربط به واقعه مع عالم أنواره العربي، وكان أن أدى ذلك إلى دخولنا في حالة من الاستلاب المعرفي جراء تبني المثقف العربي لسياقات النهضة الأوروبية وإسقاطها على خريطتنا المعرفية.

ومن الطبيعي أن ينتج عن ذلك ظهور فكرة القطيعة المعرفية مع التراث الذي تم حصره في إرث المدرسة النقلية وإغفال تراث المدرسة العقلية، والمؤسف أن حالة الاستلاب قد استمرت ليتبنى المثقف العربي بعمومه مع منتصف القرن العشرين سياقات الحداثة الأوروبية، ويحتفي بفلسفات عالم الأنوار وكأنها فتح جديد عليه، ليعلن بلوغه عهد الحداثة العربي الوهمي دون بناء جسر عبور خاص به يعكس ويعبر عن ملامحه الذهنية وسياقه المعرفي، وهو ما أوقعنا في شرك التيه المعرفي حاليا. فهل من سبيل لتصحيح المسار؟

zash113@