عبدالله الأعرج

حديث عم خليل (خارطة طريق في التدريب والعمل)!

الأحد - 26 سبتمبر 2021

Sun - 26 Sep 2021

كان يتكيء على مسند اسفنجي مزعج ينزلق من تحت ذراعه بشكل متكرر وهو يتحدث مع والدي قبل سنين عديدة ويسارقني النظر وأنا ثالثهما في مناسبة زواج لأحد أبناء القرية!

نظراته بالنسبة لي كانت واضحة جدا، فالعم خليل (رحمه الله) لا يعرفني ولا يريد أن يسألني، بيد أن زاوية نظره وتنقلها بيني وبين والدي توحي أنه متأكد أنني قريب للرجل الذي يتحدث معه!

لم يشأ أن يكتوي كثيرا بالانتظار ليفك هذا اللغز فبادرني بسؤال ذكي: تعرفني وأنا عمك؟ انتظرت لبرهة ثم أجبته: أرامكو السعودية بكبرها تعرفك ياعم خليل فكيف لـ(عبدالله علي الأعرج) ألا يعرفك! ضحك بصوت مرتفع وقال: أنفداك يا ولدي فقد صاد عصفورين (بحجر واحد) وهما ذكر تاريخه العظيم مع أرامكو كواحد من الرواد الأوائل لشركة الزيت العربية الأمريكية وعرف أيضا أنني ابن الشخص الذي يتحدث معه.

كنت أنصت لحديثه بلهفة فالحديث مع الرواد الأرامكويين دروس في الولاء والجد والكدح والإدارة! ارتاح عنق عم خليل من الالتفات إلي بعد أن عرف أنني من أهل الدار، وبدأ يتحدث بأريحية مشوقة ورشيقة في ذات الوقت!

أنت وين تشتغل يا ولدي؟

مدرس يا عم خليل

ما شاء الله عليك الله يوفقك

كنت أريد لأسئلته أن تستطيل بزيادة، فالرجل من العيار الثقيل ولن يسأل إلا عن شيء ذي قيمة، بيد أن قيم أرامكو التي تعطي لكل سؤال معنى وتحسب للوقت وإدارته حسابه وتظهر عدم التدخل المفرط في شؤون الآخرين دونما داع كانت حاضرة في شخص هذا الرجل الطيب طوال حديثه وصمته.

كان أنسه بوالدي (رحمه الله) كبيرا جدا، فبدأ في الحديث عن بداياته مع أرامكو وكيف أنه لم يكن يجيد اللغة الإنجليزية بتاتا حتى غلب على ظنه أنه لن يصمد في شركة زيت بهذه المكانة لولا أن مديره الأمريكي انتشله من ذلك المأزق من خلال التعليم الذي أسماه (حبة حبة)!

فذكر أن ذلك المدير طلب منه فقط أن يتعلم الأرقام من 1 إلى 5 بالإنجليزي من خلال تكرارها باستمرار، وأن يضع خطا واحدا لكل رقم من الأرقام 1 إلى 4 بحيث تكون متوازية وحينما يصل لرقم 5 يضعه بشكل أفقي فيكون دلالة على أن كل حزمة تعني 5 براميل من الزيت، ثم استطرد أنه انتقل معه بعد فترة من الزمن للأرقام إلى عشرة ومئة وهكذا بشكل تدريجي، وكان كل ذلك يتم تعليمه له من خلال مزيج من اللغة الإنجليزية ولغة الجسد وبعض الكلمات العربية حتى أتقن المهارات المطلوبة للوفاء بالتزامات تلك الوظيفة بشكل رائع.

كان حديثه عن تلك الفترة مليئا بالحنين، ومفعما بالولاء، ومشبعا بالإعجاب بالممارسات التدريبية البسيطة التي جعلت منه منتجا عمليا عالي التأهيل، رغم أنه لم يكن من الحاصلين على الشهادات التعليمية ولا يحمل سجل مهارات وظيفية محددة، وكان أثر السلوك الوظيفي والمهني رغم كل ذلك واضحا في حديثه واعتزازه بالحضن الدافئ (أرامكو) التي منحته ورفاق المرحلة أجمل ما لديها طيلة فترة عملهم وبعد تقاعدهم.

حديث ذلك الرجل النبيل كان بسيطا في مفرداته، عظيما في مدلولاته، وأعتقد جازما أنه يمكن الخروج منه بدلالات كبيرة جدا على رأسها:

1 - أن التأهيل المهني قلب الأوطان شريطة أن تكون جهات التدريب المهني ذات كفاءة عالية ومتقدمة في تقديم التدريب النوعي قبل الكمي.

2 - أن التدريب لا يوجد له متطلب سابق، فكل إنسان على وجه الأرض يمكن أن يقدم شيئا جميلا، بما في ذلك ذوو الإعاقة الذين أثبتت الدراسات كما ورد في مجلة المنار عام 2014 «كل شخص معاق بغض النظر عن نوع ودرجة إعاقته لا يزال يتمتع بقدرات وطاقات يمكن تطويرها واستغلالها».

3- أن الولاء جزء أصيل من منظومة العمل يتحقق بالتقدير المادي والمعنوي للمهني والتمكين والتطوير.

4 - أن التدريب على رأس العمل هو أفضل أنواع التدريب وذلك لأن قطاعات الأعمال هي الأقدر على تلمس حاجاتها التدريبية والأعلم بمستجدات السوق وطبيعة الأداء ومستقبل الصناعة.

5 - أن التدريب يرتبط جملة وتفصيلا بالجانب العملي Hands- on ولا يمكن بحال اعتبار الكتاب أو القاعة أو التعلم الالكتروني سوى أدوات مساندة للتدريب لا (تدريب فعلي).

6 - أن السلوك المهني والوظيفي هو الجناح الثاني للتدريب، فلا عمل ذو نتائج مبهرة يمكن أن يتحقق في ظل وجود سلوك وظيفي رديء.

7 - أن منظمات العمل لا ترتبط مع موظفيها برباط اسمه عقد العمل فحسب، بل يجب أن يمتد اهتمامها بمنسوبيها حتى بعد مغادرتهم للعمل وذلك من خلال الرعاية المتعددة (صحية، نفسية، ثقافية) ودعوتهم للمناسبات الخاصة بقطاع عملهم السابق والاحتفاء بهم في المناسبات والاحتفالات بذكريات المنشأة والذي سيسعد قدامى الموظفين ويعزز ثقة المعاصرين أنهم يعملون لدى منظمة تستثمر في رأسمالها البشري كأجمل ما يكون.

انتهت جلستنا مع العم خليل ولم تنته الأفكار في رأسي مقاربة ومواربة ومقارنة تأملا وتحليلا، فقد كانت بحق ليلة جميلة يمكن الخروج من أحاديثها بتوصيات عملية قابلة للتطبيق في ميادين عدة على رأسها: التدريب والعمل وقد أفعل ولو بعد حين!

dralaaraj@