محمد الأحمدي

شهداء الوطن المبتعثون

السبت - 25 سبتمبر 2021

Sat - 25 Sep 2021

محمد بن حسن بعيطي، المبتعث الذي وافته المنية قبيل تخرجه بأشهر معدودة. الباحث الذي حمل على عاتقه مشروعا تحتاجه البشرية من الشرق إلى الغرب، الأمل الذي يحلق في أعين مرضى السكري على هذا الكوكب، حيث يعمل في معمل الأحياء الجينية بكلية الطب في جامعة إكستر البريطانية للتحقق من الأسباب الرئيسة لمرض السكري النوع الأول، والمبتعث من كلية الصيدلة بجامعة جازان.

أستحضر قبيل بيومين من حفل اليوم الوطني السعودي91، اليوم الذي طالما كان محمد فاعلا فيه منذ وصوله لمقر بعثته في عام 2017، من سيشغل الحيز الذي تميز فيه هذا المبتعث. لا ينسى المبتعثون دوره الذي كان يقدمه، وتفاعله المستمر مع أنشطة وفعاليات الوطن بعطائه ونبل قيمه – رحمه الله.

هذا المبتعث منذ أن رأيته، وصاحبته، قبل أربع سنوات في مقر البعثة، ودار الغربة، وقع في نفسي صورة الفتى الذي يكتسي هدوء العالم، وحصافة الباحث، واتزان المؤمن، وعقلانية المنطق، والراجح في اتخاذ القرار، والمتواضع والبسيط البعيد عن التكبر والاستعلاء.

أكد ذلك، في مراسم مواساة زملائه في المختبر البيولوجي الأستاذ المساعد كايفن آفي ليزلي Kaiyven Afi Leslie الذي يعمل مع محمد في متابعة أبحاثه، والصديق الذي قربه العلم منه، بقوله «إن هذا الرجل مختلف عن بقية الباحثين المسلمين الذين عرفتهم، حيث إنه يتصف بالاتزان والعقلانية في نقاشاته الجانبية التي تتعلق بتعدد الأديان، وأن لديه اطلاعا واسعا بها، جعله يكون سهلا في تعامله ونقاشه الهادئ.

لا غرابة بالنسبة لي عندما سمعت الكلام، فقناعاتي وإعجابي بمنطقه، وفكره، وتخصصه، وقيمه، راسخة منذ زيارته لمنزلي في أول وصول له لمقر البعثة في 2017. فمحمد يحفظ كتاب الله، ويحفظ موروثا ثقافيا واسعا مصبوغا بالعقل والدليل والبرهان والحجة الدامغة التي تجعل المستمع يتقبل ما يطرحه، ولا تملك إلا أن تقدر ما أنتجه من فكر.

هذا المبتعث يجمع الناس المسلمون وغيرهم بأنه طيب المعشر، حسن الأخلاق، نبيل في التواصل، وأضيف بأنه عفيف في بصره في هذا المجتمع المفتوح. هذه الأخلاق جعلت مكانة محمد رفيعة في قلوب من يعرفه، وكفيلة بثقتنا في خالقنا بأن ترفعه في مستقر رحمته. قال المصطفى -صلى الله عليه وسلم- «ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حُسن الخلق». وقال: «إن المؤمنَ ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم».

محمد رغم ما يحمله من حفظ للقرآن، وصوت ندي بتلاوته في التراويح، وإمامتنا في رحلاتنا، واجتماعاتنا، وتخصص علمي دقيق، وثقافة في اللغة والأدب، وأخلاق ممزوجة بالروح الجازانية الأصيلة، إلا إنه لا يحب أن يزاحم الصفوف ليتقدمها لإظهار نفسه عن البقية، أو يحاول فرض رأيه على غيره. يدخل بهدوء، ويتقدم إن تسنى له التقدم، ثم يغادر تاركا ما قدمه يتردد في أذهان من سمعه من جمال ما طرح. هكذا هو محمد في حال تفاعله اليومي مع الحياة، وكانت خاتمته على نفس المنوال، انسل من رفاقه بهدوء وبابتسامة دائمة لا تفارقه، ولا تكاد تعرف مكنون داخله منها.

محمد المشروع الوطني النوعي الذي كان يعول الكثير على تجربته في البحث العلمي الدوائي القائم على الأدلة المخبرية في اكتشاف أسباب السكري النوع الأول في إكستر أو عند عودته للوطن والانضمام إلى فريق الباحثين في المملكة للمساهمة العالمية في حل لغز هذا الداء المنتشر؛ غادر الدنيا، في ساعة من يوم الأحد 19 سبتمبر 2021 بهدوء دون ضجيج. غادر محمد بتفاعل دون عزلة رغم مشاغله البحثية، وارتباطاته العائلية إلا إنه رأى بأن لزملائه عليه حقا في وقته.

غادر محمد -رحمه الله- وهو في طريق العلم، والنهل من منابعه في جامعة من الجامعات البريطانية التي بأبحاثها تحاول أن تخدم الإنسانية جمعاء، وعلى رأس البعثة الحكومية، وعلى مشارف التخرج الختامي الذي يفترض بأن يكون في شهر فبراير 2022. مخلفا خلفه طفلتين وزوجة، انطفأ حلمها، وتبدلت آمالها، وباتت الدنيا أضيق عليها من ثقب إبرة.

محمد -رحمه الله- من شهداء الوطن والابتعاث، الذي لا يقل أهمية عن الجندي الذي يدافع عن وطنه بروحه، فهذا بذل روحه من أجل أن يعلي شأن وطنه بعلمه وأبحاثه، واكتشافاته الطبية في حياته، والتي ستبقى في سلسلة الاكتشافات القادمة في اكتشاف أسباب السكري النوع الأول بمعمل الأحياء البيولوجية بكلية الطب بجامعة إكستر وبإشراف البروفيسور نيول مورجان Noel Morgan.

لا أشك بأن كلية الصيدلة بجامعة جازان العريقة ذات الفكر النير الذي تجلى في نوعية مبتعثيها أن تتبنى ما يخلد ذكرى هذا المبتعث المميز؛ كأن تمنح بنتيه الاثنتين وسام الاستحقاق في مواصلة عطاء أبيهما بعد تخرجهما، أو تخلد ذكراه بما تراه يليق بسمعة مبتعثيها.

ولا شك لدي بأن وزارة التعليم التي سهلت كافة الخدمات للمبتعث وذويه أثناء حياته أن تبادر كعادتها في خدمة من يأتيه الأجل على رأس البعثة ممن تميزت أبحاثهم عالميا كأن تعاملهم معاملة شهداء الوطن في التميز العلمي والبحثي. وما أجد محمد -رحمه الله- إلا من أبرز هؤلاء الذين يستحقون التقدير والاحتفاء في يوم ذكرى الوطن91، نظير تميزهم العلمي والبحثي. فهذا الجهد البحثي النوعي في التخصص الدقيق كان كفيلا بأن يجعل محمدا -رحمه الله- يعتلي منصات التكريم العالمية في حياته، وكفيلا بأن يخلد ذكراه في عقد الوطن الثمين اليوم عند وفاته.

وأن يكون لوزارة التعليم السبق في ذلك، قبل أن تتبنى جامعة الابتعاث مشروعا تكريميا لذكراه من خارج الوطن. فما أجمل الذكرى التي تأتي برائحة تراب الأرض، وتعزز روح الانتماء في بناته، وزوجته. وقيادة المملكة ولله الحمد حكيمة، معطاءة استطاعت أن تجمع شتات الناس في عقد الوطن المترامي، وقادرة أن تلحق من يفقد حياته أثناء الابتعاث بشهداء الوطن الغالين ليستمر العطاء مع أبنائه.

alahmadim2010@