زيد الفضيل

التراث بين إشكال الهوية وحكم التاريخ

السبت - 11 سبتمبر 2021

Sat - 11 Sep 2021

وأنا أتابع مختلف التغطيات التي ناقشت كتاب «تراث الاستعلاء» للدكتور سعيد المصري، الذي ناقش فيه جانبا من إشكال تراثنا الذي ارتبط به البعض بهوس وتقديس كبيرين، انشغل ذهني بفكرة وجودية في مضمونها يتمحور مؤداها في السؤال التالي: وأي التراث الذي قصده المؤلف بوصف الاستعلاء؟ وما نسبة علاقته بالمرجع الأعلى في ثقافتنا الدينية وهو محكم القرآن الكريم والصحيح من السنة النبوية التي لا يتعارض متنها ومضمونها ودلالتها مع الكتاب المحكم آياته؟

إن إشكالنا التراثي نابع من حالة التماهي الواقع بين جوهر الهوية الدينية الذي يجب أن نكون عليه وفقا لسيرة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- الصحيحة والثابتة، وتأثير الحدث التاريخي لاحقا بمحتواه السياسي والاجتماعي والاقتصادي والنفسي، وهو أمر يمكن تمييزه بسهولة لكل متجرد متأمل في صيرورة الشاهد التاريخي مع تشكل الدولة السلطانية، تلك التي ابتدأ حكمها من بعد نهاية حقبة الخلفاء الراشدين، ووضح عمق تأثيرها على طبيعة الهوية الدينية للمجتمع بشكل عام.

وفي يقيني فقد كان ذلك هو لب إشكال النبي محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- مع قريش حال دعوته في الفترة المكية، إذ لم يستسغ سادة مكة قبول مساواة الدعوة النبوية بينهم وبين من دونهم من الطبقات الاقتصادية وبالتالي الاجتماعية، ناهيك عن مساواتهم بعبيدهم، ولو استجاب رسول الله لهم في حينه ووافقهم على مبدأ التمايز الطبقي مثلا، لآمنوا به مباشرة، لكن ذلك لم يحدث، بل وجاءت إرادة النبي في العهد المدني لتؤكد على سمات العهد الجديد القائم على المساواة، حيث تمثل ذلك في بنود صحيفة المدينة أولا، ثم من خلال السلوك الحياتي الذي قسم فيه أصحابه بحسب وظيفتهم إلى: مهاجرين وأنصار، يتساوون في المكانة الاجتماعية، ويتمايزون بالأداء والعمل فقط.

وعلى الصعيد الديني فقد عمل رسول الله منذ الابتداء على تكريس الحرية في مختلف صورها وأعلى حالتها، المتمثلة في إقرار الحرية الدينية للإنسان، وإقرار التعايش معه في كل حالاته وفقا لقوله تعالى في سورة الكافرون: {لكم دينكم ولي دين}، والبناء على المشتركات في حال وجودها وفقا لقوله تعالى: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون}.

على أن ذلك قد تغير بشكل تدريجي ومكثف مع نهاية حقبة الخلفاء الراشدين، حيث وفي الإطار الاجتماعي بدأ التمايز بين المسلمين العرب وغيرهم من الشعوب الأخرى الذين أطلق عليهم اسم «الموالي»؛ كما ظهر في الإطار السياسي حالة الاستقواء بتفسير ديني منطلق من اجتهاد خاص للنص المقدس على كل الخصوم المعارضين بهدف تصفيتهم واستباحة دمائهم، وهو فعل قبيح اشترك فيه الخوارج وعديد من حكام الدولة السلطانية تباعا، وكان مؤدى ذلك أن امتلأ تراثنا الحديثي والفقهي بأحكام متشددة في إقصاء كل من يختلف برأيه، مفرطة في قمع المخالف، حتى تعدى استخدام وصف «الكفر» إلى فئات توحد الله، وتؤمن برسوله وملائكته وكتبه، وتقيم بقية أركان دينه من صلاة وصيام وحج، وليس سرا حادثة ذبح الجعد بن درهم، وقتل غيلان الدمشقي، وجلد أحمد بن حنبل، وقتل النسائي، وحصار محمد بن جرير الطبري ثم دفنه سرا حتى لا ينبش قبره، والقائمة تطول من نماذج الاضطهاد التي تمت استقواء بفهم خاص للتراث، بل وبلغ الاستقواء مداه مع خطبة أبي جعفر المنصور في يوم عرفة للناس قائلا: «أيها الناس، إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه وتسديده، وأنا خازنه على فيئه، أعمل بمشيئته، وأقسمه بإرادته، وأعطيه بإذنه، قد جعلني الله عليه قفلا، إذا شاء أن يفتحني لأعطياتكم وقسْم فيئكم وأرزاقكم فتحني، وإذا شاء أن يُقفلني أقفلني، فارغبوا إلى الله وسلوه في هذا اليوم الشريف أن يوفقني للصواب، ويُسددني للرشاد، ويلهمني الرأفة بكم والإحسان إليكم، ويفتحني لأعطياتكم وقسم أرزاقكم بالعدل عليكم، إنه سميع قريب».

والسؤال الذي يجب أن يطرح هو: هل يعتبر ذلك الإرث الفقهي المتعصب والذي أنتج وفقا لظروف سياسية واجتماعية خاصة، من الموروث الذي نحاكم التراث النبوي به؟

في تصوري أن ذلك إجحاف آخر لحقيقة التراث وواقعه، إذ حين نحاكم إرثا أنتجه الفقهاء وفق ظروف زمانية ومكانية خاصة باعتباره موروثا أرسى قواعده نبينا -عليه الصلاة والسلام-، نكون قد ارتكبنا جناية أخرى، وبالتالي فجدير بنا التفريق بين إرثنا النبوي الصحيح جملة وتفصيلا، وما أنتجته الدولة السلطانية من إرث لا نزال في قيده حتى الآن.

zash113@