بسام عبدالله البسام

نورة.. نور الدنيا الذي انطفأ

الأربعاء - 01 سبتمبر 2021

Wed - 01 Sep 2021

لم يكن يوم الخميس 6 فبراير 2020 يوما عاديا بالنسبة لي حين كنت أقف داخل القبر وأنظر إلى الوجوه الواجمة وهي تناولني اللبن لأصفه على جسد والدتي الطاهر.. حينها كنت أستمع إلى أحدهم وهو يحادث الآخر معزيا ومواسيا «ليتنا نموت بأعمال مثل أعمالها» وأكمل.. «هذه المرأة نوع نادر من النساء بل كأنها لم تكن تعيش في هذا العصر» خنقتني العبرة وأنا أشيح ببصري نحو شقيقي الوحيد وهو يقف جامدا على طرف القبر ويرمق بنظرات أخيرة أقرب إنسان لقلبه كما كانت هي له.

تزاحم الجميع في طلب الأجر وهم يحثون حثوات من التراب على قبرها!! لنودع جميعا إحدى بركات هذا الزمان من النساء اللاتي لم يخالطن دنس هذه الدنيا وزيفها الخاسر.

أم بسام كما أحبت أن تسمى كانت إحدى النساء ولكنها نوع نادر من النساء؛ فهي تعيش بيننا بجسدها ولكن قلبها كان معلقا بالآخرة.. معلقا بالله سبحانه وتعالى، وكان لسانها لا يفتر عن ذكر الله استغفارا وتكبيرا وتهليلا وغالبا ما كنت أزورها لأجدها في مصلاها الصغير.. راكعة أو ساجدة أو ذاكرة لله..

أمي كانت ضريرة البصر لكن نورت حياتي وكنت أنا عيونها وولدها البكر.

تعابير وجهها كانت ككتاب مفتوح ومصدر راحتي إذا رضت وإذا زعلت علي أحتار في دنيتي.

افتقدت لذة النظر إلى عينيها ولكن امتلكت من نعومة أظفاري مهارة عالية في قراءة الوجوه والتعابير وأدق التفاصيل بسبب كثرة مطالعتي لوجهها الوضاء تلمسا لمشاعرها وأحاسيسها قبل أن تنطق.

كانت سبب كل شيء جميل وناجح وسعيد وكل فرصة رحلت كانت خطأ مني فقط.

رعتني وكبرتني وتابعتني وتعبت معي وتعبتها كثيرا وطلعتني مهندسا ورحلت لربها بعد ما أدت أمانتها بكل إخلاص ومحبة وصبر وعطاء.

أمي رحمها الله عاشت حياتها للآخرة وللآخرة فقط؛ فكانت تعيش بيننا ولم نكن نسمع لها صوتا ولم نكن نسمع لها طلبا أو حاجة للدنيا، كانت طلباتها معلقة في الآخرة.. تصدقوا على هذا الفقير.. اسألوا الله المغفرة لي.. ادعوا لهذا المريض بالشفاء.. اذكروا الله ودعوا الآخرين وشأنهم.

اعتزلت الولائم والمناسبات إلا ما ندر واستحق واجبا، اعتزلت الاجتماعيات العامة، وحاولت قدر الإمكان عدم مخالطة الآخرين في أمور الدنيا، عشنا معها سنين طويلة كانت خلالها امرأة صالحة ذاكرة ساجدة، وحتى عندما أصابها المرض الخبيث لم تتبرم ولم تشتك وكانت تعاني كثيرا وكثيرا وكان كل كلامها «الحمد لله.. الحمد لله».

زوروا فلانة واسألوا عن أحوالها.. وأعطوا فلانا صدقة.. واسألوا الآخر أن يدعو لي، هذه المرأة كانت صادقة مع الله في كل أمورها.. ولذلك أعطاها الله سعادة الدنيا ونسأل الله أن يرزقها سعادة الآخرة.

كنا عندما نلتف حولها نلومها على عدم الأكل أو الشرب، حيث كانت تأكل الكفاف أثناء مرضها، وكانت تقول لنا «مالي وللدنيا.. والآخرة خير وأبقى»؛ لذا كان الكثيرون ممن شهدوا جنازتها ومن حضروا للعزاء رجالا ونساء يتمنون أن يكونوا مثلها، ويشهدون لها بالخير والصلاح إن شاء الله، والناس شهداء الله في أرضه.

لم يتفق الناس كما اتفقوا في الثناء على هذه المرأة.. عبادة وتقوى وصلاح والشهادة لها بالقبول والعمل الصالح، هكذا عرفتها وهكذا ستبقى في بالي وهكذا عرفها الناس، ولم أقل ولم أكتب إلا قليلا في حقها، ويعلم الله أن كل كلمة كتبتها ليس فيها أي نوع من المبالغة أو غير الحق، فرحمك الله يا نورة - أم بسام - وأسكنك الله فسيح جناته وأسأل الله كما جعل لك القبول والحب في الدنيا أن يجعلك مع المقبولين في الآخرة، وأن يحشرك في زمرة المتقين في عليين ووالدي الغالي وجميع أهلنا وأحبابنا إنه على ذلك قدير.

@Bassam_966