زيد الفضيل

الدعاة الجدد ونظام التفاهة

السبت - 28 أغسطس 2021

Sat - 28 Aug 2021

سلط الدكتور ألان دونو الضوء في كتابه «نظام التفاهة» على مختلف الوسائل التي تحول بها ومعها المجتمع من سياقه الجاد إلى سياق متفلت مرتكز على ثقافة التسطيح وتسخيف الأشياء، وهو ما بتنا نعيشه بشكل مكثف جراء تداخل المفاهيم من جهة، وتطفل المتفيقهين والرويبضة في كل شاردة وواردة، بل والأعجب حين يتزعم أولئك منصة البحث بكل بجاحة، ثم وبسماجة ممقوتة يجعلون من أنفسهم قادة للرأي، وللأسف فقد وجدوا من يدعمهم لغاية في نفسه، ولعمري فتلك هي غاية الشيطان وحلفائه الصهاينة.

وواقع الحال فلست مبالغا إن جزمت بأن التحالف الوثيق قد نجح في زعزعة قواعدنا خلال العقدين الماضيين، حيث ظهر بيننا من تكلم باسم الدين وقواعده وهو غير متخصص أبدا، بل لا يفقه أبسط قواعد اللغة التي يحتكم إليها، وأؤمن بأنه ما كان ليكون أولئك لو حافظ المجتمع على قواعده العلمية ومنصاته الرئيسة، التي تم استبدالها بأنصاف متعلمين تسنموا سدة المشهد باسم المعاصرة ومجايلة الشباب وإلى غير ذلك من التبريرات التافهة، وكان من جراء ذلك أن غاب العلماء المتخصصون وحل محلهم أنصاف متعلمين تصدروا المشهد بخطابهم الديني الناقص، وصاروا هم العلماء في نظر أجيالنا المعاصرة، حتى إذا جد الجد، ولاك الشيطان ورجاله بألسنتهم قضايانا الدينية، لم يتمكنوا من مواجهة منطقه، لكونهم لا يملكون الحجة، فهم مجرد محاسبين أو إداريين أو صناع مهنيين لبسوا عمامة الدعوة، وجلباب العلماء، ولم يكونوا في يوم من الأيام منهم، ثم تصدروا ساحة الإعلام في غفلة من الزمن، حتى إذا أفقنا وجدنا أن أبناءنا في التيه وهم لا يدركون.

والغريب أن من أشير إليهم قد تقمصوا خلال ذروتهم سمات الشخصية التافهة كما نص عليها الدكتور ألان دونو في كتابه، إذ يشير إلى أن التافه يكون لديه هوس في جمع الألقاب والحصول على شهادات وهمية، وهو ما شاهدناه في عديد من أولئك الدعاة والمشايخ الجدد، الذين استأنسوا إضافة ألقاب ما أنزل الله بها عليهم، وعملوا على تلقيب أنفسهم بلقب أكاديمي بعد حصولهم على شهادة غير معتمدة، إن لم تكن وهمية ودون سياق علمي ومنهجي معتمد، فتراه متخصصا في الرياضيات أو المحاسبة أو مهنيا صانعا، ثم تجده حاصلا على الدكتوراه في العلوم الشرعية أو الإنسانية، ولعمري فهذا قمة الغش والتدليس.

ونظام التفاهة كما يشير دونو قائم على استكثار عدد المناصرين والمتابعين، ويقوم على تسطيح الأشياء، وهو ما تجده فيمن أشرت إليهم، إذ تمثلت القيمة لديهم في العدد، فكلما زاد عدد المتابعين والمصفقين زادت قيمة أحدهم، بل وصل بنا الحال إلى أن يتفاخر عديد منهم بكثرة عدد متابعيه ليصل إلى الملايين عبر وسائط التواصل الاجتماعي، وكأن ذلك هو الغاية المرجوة التي يريد تحقيقها، وفي يقيني فتلك هي سمة الوهميين الواقعين في شرك سلطة الجماهير وتأثيراتهم السلبية كما يقرر جوستاف لوبون في كتابه النفيس «سيكولوجية الجماهير».

على أن كثرة المتابعين هنا مقرونة بالجانب المادي المتمثل في موضوع الربح على الصعيدين المادي والمعنوي، فالكسب هو الغاية المرجوة سواء كان مالا أو وجاهة بين الناس، ولذلك وفي السياق المادي رأينا كيف صارت الشهرة وما يتبعها من مكاسب سوقية هي غاية أولئك، ومصدرا لتباهيهم، مثلهم مثل مشاهير الغناء ومن شاكلهم. وتلك خصلة لا يعرف معناها وطريقها كل العلماء الحقيقيين على مختلف الأصعدة والمناهج سواء كانوا من المتخصصين في العلوم الشرعية والإنسانية أو العلوم الطبيعية البحتة.

أخيرا، آن الأوان لأن نعترف بأننا قد ابتلينا على صعيد المشهد الديني بخاصة، وفي تخصص علم التاريخ كذلك، بطغمة من أنصاف المتعلمين الذين عملوا ــ بإرادة منهم وبدفع من غيرهم ــ على تصدر الساحة الإعلامية بحجة أن العلماء لا يصلون إلى الشباب، ولا يعرفون لغة الشباب، وكأن الشباب حصيلة هذا الزمان فقط، وبالتالي فحري بهم أن يقوموا بالدور نيابة عنهم، فكان أن رأينا محاسبا يتحدث في السيرة وما يتعلق بها من أحكام بفهم مخل، واستمعنا لإداري يتكلم في التاريخ الإسلامي بجهل مركب، ويردد هذا وذاك روايات ما أنزل الله بها من سلطان، لكونهم لا يملكون أدوات المعرفة التي يحقق بها العالم والمؤرخ السيرة والتاريخ، ناهيك عن صانع فني تصور أنه قد أصبح حجة في العلوم الشرعية لمجرد أنه قرأ كتابا، وحضر مستمعا لدروس عامة أيضا، وكانت النتيجة أن أفقنا وقد تحول خطابنا الديني من علم منهجي له قواعده وأصوله إلى حكاية تروى بجهل ودون وعي، وهو ما سمح للطفيليين بغزو أفكار شبابنا بعد ذلك بحديث ممجوج ومردود حجة ومنهجا، والسؤال: كيف يتسنى لعلمائنا المتخصصين الذين تم إقصاؤهم عن ثنايا المشهد كليا الوصول إلى شبابنا اليوم؟ تساؤل أرجو له إجابة لتلافي ما يمكن من ضرر.

zash113@