عبدالحليم البراك

مواطن تم تسليعه!

الاثنين - 23 أغسطس 2021

Mon - 23 Aug 2021

ببساطة متناهية، هناك حرب دائرة بين أقلية وأكثرية، الأقلية فائزة دوما في هذه الحرب، والأكثرية خاسرة دوما في هذه الحرب، لم تعد حربا، نعم هي ليست حربا، هي فكرة أخرى مختلفة تماما، كيف يمكن للفائزين من الأقلية أن يجنوا أكبر وأكثر شيء ممكن من جيوب الأكثرية، ويعتبرون الأمر خسارة لهم إن كانت أرباحهم حفنة ملايين أو مليارات لأن بإمكانهم وبمزيد من التسليع للإنسان والحياة أن يجنوا مزيدا من المال.

تحولت أكثريتنا لسلعة، فما الإنسان إلا رقم يضاف ليتم بيع هذا الرقم للمعلن والمسوق من أجل كسب مزيد من المال، فمثلا أنت سلعة في مواقع التواصل الاجتماعي ومستهدف، وكلما زادت السلع الموجودة في حساب شهير أو في حساب البرنامج نفسه زادت أرباحهم، وأنت ماذا تكسب؟، لا تكسب شيئا. تخسر وقتك ونجاحك وجهدك وطاقتك وروحك ورأيك وحريتك مقابل: مقطع للتيك توك مضحك أو شهير بلا محتوى بالسناب شات، أو مقاطع مثيرة لكنها فارغة في الانستقرام أو إعلان تافه في تويتر.

تحولنا لسلعة في السوق العالمية؛ فالماركات العالمية استطاعت وبمهارة أن تجعل قيمتك فيما تدفعه، وإذا لم تدفع فأنت لا شيء في عين الناس، أهلك وأصدقائك (إذن أنت سلعة، كلما أقنعك المعلن بشراء شيء دفع من أجلك، وكلما دفعت تم استلابك أكثر) فصارت الماركة مقياس قيمتك أمام الناس، لا عقلك وكفاءتك وعملك وجودتك ومهنيتك ومدى التزامك.

فلم يعد ما نختص به إلا التراث حتى إذا زارنا أجنبي أظهرنا له بيت الطين والسدو وشرفات الجص القديمة، بينما إذا افتخرنا أظهرنا كالفن كلاين وشانيل وشوبار وفان كليف، تحولنا لسلعة في سوق السياحة العالمية، تم تسليع أذوقنا السياحية، فصرنا في قرية العالم الصغيرة لا نرى إلا ما يراه صناع السياحة بالعالم، المكان نفسه يتكرر مقابل أن يتكرر الإنفاق نفسه ومن خلال ذلك تم تسليع جسد المرأة لمّا سمحت المرأة بتسليع نفسها مقابل مال أو ضوء وتم تسليع الرجل الذي يدفع مقابل شهوات لحظية لأن الإنسان سلعة يباع ويشترى ويبيع ويشتري!

تم تسليعنا بحرب منتظمة خطيرة للغاية، بدأت أدواتها بالتكنولوجيا التي سلعتنا ثم بصناعة ذوق المستهلك الذي سلع ثقافتنا المحلية ثم تم تسليعنا بواسطة الإعلام المنظم السابق، ثم الإعلام الجديد المتشظي (ألف برنامج وألف قناة وألف منتج) والذي يقوده التاجر المعلن، تم تسليعنا بواسطة شركات الأدوية والتجميل التي تبيع لنا ما ينفعنا ويضرنا وليس المهم ذلك بل المهم جيبك. وتسلعنا من قبل شركات الأغذية التي تبيع غذاءك اليومي وأول اهتمامها غفلتك وشهوة الأكل لديك وآخر اهتمامها صحتك وضميرهم!

حتى المستشفى صار يعطي الطبيب أجره الذي يتعاظم عندما يسلع المريض، فكلما زاد الطبيب من الأشعة والتحاليل الطبية والأدوية المصروفة زادت تم تجديد التعاقد معه، والضحية المريض الذي تم تسليعه ومن جانب آخر تم تسليع التعليم من الكتاب الالكتروني إلى اسم المدرسة لأنها (كلاس) درجة أولى أشهر من المدارس الحكومية، فالأمر مخز جدا!

إشكالية التسليع أنها حرب تأتيك من جميع الجهات المعروفة لك وغير المعروفة أيضا، من القريبة الصديقة والعدوة، تأتيك على هيئة إغراء ساعة أو فرض ساعة أخرى، وتأتي مواكبة للعصر أو شهوة إنسانية مفرطة أو برسيتيج اجتماعي، أو لغة حية، أو استلاب ثقافي، تأتيك على شكل عصرنة حياتك اليومية أو على شكل آخر جديد، المهم أن تكون البقرة النحيفة الجائعة التي تختطفها يد التاجر والتقني والإعلامي والمفكر حتى لا يبقى في جيبك درهم ولا ريال ولا يبقى في عقلك فكر تقاوم فيه تسليعك ولا يبقى في جسدك قوة تقاوم فيه حالات التجارة فيك ! إشكالية التسليع أيضا أنه يبدأ من أصغر شيء ولا ينتهي إلا بأكبر شيء، وربما بدأ بالأكبر، كالفلسفة والفكر والسياسة والإدارة والتخطيط وينتهي بالتسويق والبيع والأفراد والأطفال وأفكارهم واحتياجاتهم، الأمر معقد للغاية وبسيط في وضوحه للغاية أيضا.

Halemalbaarrak@