محمد الأحمدي

صناعة العقل الجمعي في منصات التواصل الاجتماعي

الثلاثاء - 17 أغسطس 2021

Tue - 17 Aug 2021

يجدر بهذا المقال أن يبدأ بمقولة شارل تاليران وزير خارجية نابليون «كل ما يبالغ فيه فهو أمر غير ذي أهمية» على الرغم من أن هذه العبارة ليست مطلقة في سياق السياسة إلا أن إسقاطها في واقع وسائل التواصل الاجتماعي فيه مصداقية إلى حد ما على الأقل فيما يسوق فيها من أفكار قائمة على التركيز على التفاصيل الدقيقة، وصناعة أهمية لتوافه الأمور الحياتية، والاستمرار في تكرارها على الناس، والمبالغة في عرضها، وإعطائها صفة الأهمية والأولوية في الحياة حتى تتمكن في العقل الجمعي للناس.

لم يكن التعبير بالمظاهر السطحية عن الواقع الذي يعيشه مسوقها حدثا جديدا على العالم، ولكن أسهمت وسائل التواصل الحديثة في تعزيزه ونقله بين الشعوب بطريقة سريعة. خذ على سبيل المثال: كيف ظهرت الطبقات الثرية في رواية الأمريكي ثورستين بوند فبلين نظرية الطبقة المترفة بمظهر الاستهلاك الشكلي، وإظهار وقت فراغهم الذي يدل على عدم حاجتهم للعمل. أو حينما عبر نيكولايفيتش تولستوي في رواية آنا كارنينا عن صورة الفرد في طبقة النبلاء الروسية الذين باتوا يرطنون باللغة الفرنسية والإنجليزية في مجالسهم، ويبالغون بالاهتمام في العناية بأظافرهم لدلالة على عدم انخراطه في أعمال يدوية شاقة. أو ما أورد موليير في مسرحية البرجوازي النبيل التي تدور أحداثها حول استخدام أسلوب السخرية والتفاهة من بعض أفراد الطبقة المتوسطة للبروز الاجتماعي في مجتمع تسوده الطبقة الأرستقراطية السائدة في المجتمعات الأوروبية في وقتها. ومن هنا فلا غرابة أن ترى الفكر السطحي الذي ينشر في هذه المنصات بأشكال متعددة، كالاهتمام بالأزياء، والمشرب، والمأكل، والدعاية والإعلان، والإيحاءات الاستعراضية من الطبقات المتوسطة.

لا ينكر أن منصات التواصل الاجتماعية المختلفة سوقت نفسها في بدايتها كمنصات لتبادل الآراء بين مستخدميها، لكن أعتقد بأن أصل نظامها نظام لتسطيح التفكير من خلال ما تمارسه شركاتها من تهميش التفكير، وتعزز الغفلة، ودعم الثانويات عن الأولويات، ورفعها إلى مرتبة الضروريات، إلى أن أصبح هذا الفكر السطحي المجرد من التفكير الناقد يكرر على أفواه المتلقين دون تأمل في خفاياه، والانقياد له طواعية. وبقراءة لسياسة هذه المنصات الاجتماعية العالمية يتضح بأنها قائمة على بنية فكرية سلطوية ذاتية، مبنية على نظام سيئ، غير متوقع، وغير ديمقراطي لعدم مناقشة وتبرير وتوضيح قواعده، مما يمكن مؤسسيها من تحويل تلك القواعد أو البروتوكولات إلى أدوات وظيفية متى ما دعت حاجة تلك الشركات العالمية لتغييرها، أو القدرة في الطعن في الأفكار المقدمة فيها، أو التغلب على الخصوم المعارضة فيها، أو تحريك حركة شعبية أو سحقها.

ولا يخفى القدرة المالية الضخمة لهذه الشركات العملاقة عالميا، مما يمكنها من تمويل عينات من الأفراد المستفيدين منها في المجتمعات الأكثر تأثيرا وانتشارا لها من أجل بقائها لأطول فترة ممكنة، وتمكين بعض هؤلاء المتابعين من تحقيق الأرباح التي تأتي في صور مختلفة كشراء حقوق النشر، أو الدعم على عدد المتابعين أو عدد المشاهدات.

وعندما لا يرى هؤلاء المتابعون البسطاء أنفسهم سوى أسنان مشط في يد الحلاق فإنهم يلعبون دور البطولة التي تكون متاحة لهم في اتباع أفكار تلك الشركات الضخمة على مجال المشاهير في تسويق الفكر السطحي، والتركيز على صغائر المهام، ومحاولة تضخيمها بتكرارها، وجعلها صورة عامة للمجتمع المتواجد فيه أولئك المشاهير، أما في نطاق المتابعين فإن بطولتهم هي تقبل تلك التفاهات، وشراء المنتجات المسوقة لهم، ومحاولة التركيز على صغائر اليوميات دون الأولويات الرئيسة؛ لأن السلطة الطبقية التي وضعت الشركات العالمية الفرد المشهور فيها، وسوقت صغائر حياته للجماهير كفيلة بأن تحول أتباعه لموظفين عنده، حيث يعملون على زيادة أرباحه، وأرباح شركات التواصل، وشركات التسويق دون جهد منه، ويبقى محافظا على نظافة أظافره من مشقة العمل اليدوي، والجماهير تكتوي بنار الصيف في طوابير على ما سوقه لها.

لا يتطلب العمل السطحي التافه سوى التركيز على ملء الوقت بنتائج ظاهرية بسيطة، يساعد في إبرازها مجموعة متعاونة في هذا التظاهر، ومستفيدة منه ومن استمراره، وهذا ملموس في المنظمات بشكل عام، أو في مجموعات التواصل الاجتماعي التي ترتبط ببعضها، وتتوافد على تسويق ما ترغب تسويقه من أفكار للمجتمع بهدف الاستهلاك المالي. وفي ظل هذا التسطيح الفكري الذي يدفع الجماهير بالتجهيل والتحفيز لأجل جني الأرباح المالية أن يتكون العقل الجمعي السطحي للجيل من هذه المنصات الاجتماعية.

فهل يوقظ تدريس التفكير الناقد والفلسفة التفكير التحليلي المنطقي أم يبقى الحال على ما هو عليه؟

alahmadim2010@