زيد الفضيل

مدينة الحب والمحبة

السبت - 31 يوليو 2021

Sat - 31 Jul 2021

من أجمل روايات التراث العربي التي حفرت لها مكانا عميقا في ذاكرتي، تلك الرواية التي تقول: إن شخصا كان يمشي في الصحراء، فرأى شاخصا من بعيد، فظنه للوهلة الأولى وحشا، فلما اقترب منه تبين فيه ملامح إنسان، ولما اقترب منه أكثر وضح له أنه يعرفه، ولما اقترب أكثر وأكثر تبين له أنه أخوه ابن أمه وأبيه.

ذلك واقعنا اليوم الذي سبب ويسبب كثيرا من مآسينا البينية، فمعظم إشكالاتنا وحروبنا مرجعها الجهل بالآخر، وبالتالي التوجس منه والحكم عليه بشكل خاطئ، متناسين أن إشكالنا كامن في جهل بعضنا ببعض، وعدم إدراكنا ومن ثم استيعابنا لمنطلقات وحيثيات كل واحد منا، ومرجع ذلك ابتداء وانتهاء راجع إلى ما بناه كل واحد منا من تحصينات حبس نفسه خلفها، وما أصدق قول الإمام علي كرم الله وجهه حين قال: الناس أعداء ما جهلوا، والجهل آفة كل سلوك، ونقيض كل محبة.

على أني أجد أن القلوب تأتلف في مكان واحد وفي لحظة شرود من كل تفكير مقيت، وذلك حين تتوجه بنور بصيرتها إلى بيت الله المعظم، وحرم نبيه محمد -صلى الله عليه وآله وسلم-، لكون ما يجمعهم أكبر وأهم وأصفى من اختلاف أجناسهم وأعراقهم، وتياراتهم ونحلهم، فالحب الصادق قيمة ربانية، ترعاه الملائكة وتحمله بين جوانحها، وما أروعها من قيمة تقف خلف كل سلوك إنساني نبيل!، فتراهم وقد أعانوا بعضهم، وأفسحوا الأماكن لبعضهم، وتناغموا بأصواتهم مهللين مكبرين مسلمين، تاركين حصونهم التي أهلكتهم وراء ظهورهم، ومؤمنين بأن قيمة ما يجمعهم في هذه الرحاب الطاهرة كامن في ذلك الحب المحفز لما يجب من إخاء وتسامح.

في هذا السياق فما أجمل لحظات السكون التي يتلذذ بها الزائر لمدينة الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وآله وسلم-، حيث تستكين النفس، ويهدأ أوارها، وكيف لا يكون ذلك؟! والمؤمن بجوار خير البرية وأفضل الخلق قاطبة سيدنا محمد بن عبدالله بن عبد المطلب الهاشمي القرشي -صلى الله عليه وآله وسلم-.

إنها طيبة الطيبة التي يستحيل الإلمام بقيمتها وأهميتها، وكيف وقد حباها الله باحتضانها لخير البشر وأفضل الخلق، خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد بن عبدالله الأمين، واحتضانها لآل بيته الطاهرين، وصحابته المنتجبين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

إنها مدينة النور والإيمان، الرحمة والإحسان، فيها تألف النفوس وتسكن آمنة مطمئنة بجوار الشفيع المشفع، المنزل رحمة للعالمين. فيها يصفو الذهن، ويعتمر الفؤاد بكل قيم السماحة والمحبة.

في المدينة الطاهرة يستشعر الإنسان عظمة هذا النبي الكريم حين يقف صاغرا فوق أطام جبل أحد، مستشعرا بسالة عم رسول الله حمزة بن عبدالمطلب أسد الصحراء، ذلك الفارس الضرغام الذي نصر ابن أخيه في أحلك الظروف وأشدها، وصفع أمام الملأ عمرو بن هشام الذي كناها رسول الله بأبي جهل وهو أحد أشد صناديد الكفر ولم يستطع أن يردها عليه، ثم جندل كفار قريش بسيفه في بدر وأحد حتى نالته يد الغدر، فكانت شهادته -رضي الله عنه-، ليدفن مع سبعين من رفاقه، ويبكيه أهل المدينة جميعهم محبة لرسول الله، بل ويستمر شاخصا في قلب رسول الله؛ ليكون شاهدا على حقبة من التاريخ النبوي الطاهر.

في المدينة المنورة يتلمس الإنسان خطى الحبيب وسلوكه الشريف، فرحه وحزنه، تعبه ورضاه، حب أهله وصحابته له، فيشعر المرء بالسعادة، وتستكين نفسه آمنة مطمئنة.

في مدينة المصطفى -صلى الله عليه وآله وسلم- تصفو النفس، ويجلو الخاطر، وكيف لا؟ وكل من حولك قد تملكهم الحب فأتى بهم من مختلف أنحاء الديار قريبها وبعيدها، فتراهم وقد تجللوا بنور هو من نور من هم بجواره، وهو شعور لا يلمسه ويدرك معناه سوى من توجه بقلبه لزيارة محبوبه، وما أكثر أولئك.

أخيرا هي مدينة حبيبنا المصطفى -صلى الله عليه وآله وسلم- نبي كل المسلمين ومرجعهم على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم، التي لم يفرض الله الحج إليها كمكة المكرمة، فكان أن جاءت النفوس المحبة إليها منقادة بتودد لبلوغ رضا الله ورضوانه، مصداقا لقوله تعالى (قل إِن كَان آَباؤكم وأبناؤكم وإخـوانكم وأزواجـكم وعشـيرتكم وأموال اقترفتموها وتجـارة تخـشون كسادها ومسـاكن ترضونها أحـب إليكم من اللَّه ورسـوله وجـهاد في سـبيله فَتربصوا حتى يأتي اللَّه بأمره واللَّه لا يهدي القوم الفاسقـين)، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين).

zash113@