عبدالحليم البراك

أكذوبة التخصص

الاثنين - 12 يوليو 2021

Mon - 12 Jul 2021

في الثمانية عشر ربيعا من عمرك يبدأ تخصصك الجامعي؛ فهل اخترته بعناية، هل أنت اخترته فعلا وما زال هما وهاجسا لك، نعرف جميعا أن هناك مؤثرات على المراهقين تحدد مستقبلهم، مثل توجيهات الآباء لهم، وكذلك نصائح أصدقائهم، وكذلك متغيرات المرحلة، وإليكم الأمثلة، الآباء غير المهتمين برغبات الابن بل بالمستقبل، ولذلك كل الآباء المتعلمين يريدون أن يتخرج أبناؤهم أطباء ومهندسين، ويصر الأثرياء أن يدرس أبناؤهم إدارة الأعمال، بينما يلجأ أصحاب النفوذ إلى تدريس أبنائهم السياسة والقانون، وكل الحالات لا تمت إلى ماذا يجيد الطالب، وماذا يحب، ويحث الأصدقاء على تخصص معين نتيجة صورة نمطية عن تخصصات غالبا تكون الفكرة غير ناضجة، لذلك لا تثق بتخصصك وثق بما تحب وتجيد والكلمة الأخيرة أجدى!

أيضا، التخصص يحدث بسن مبكرة جدا، ابحث عن صورتك وأنت في سن الثمانية عشر، أو العشرين أو الثانية والعشرين إبان تخرجك، صورتك تغيرت كثيرا، ملامحك ليست ملامحك الآن، ولم يبق منك إلا ما يشير إليك، حتى تكاد تنفجر من الضحك على شكلك السابق، وكذلك عقلك ورغباتك ولسانك ومنطقك، لو اطلعت على أفكارك في تلك المرحلة لضحكت أكثر، ولو رأيت رغباتك في تلك السنة، لابتسمت من سذاجة عقلك، أما منطقك ولسانك فلا شك أنه تطور الآن، فلذلك لو سمعت حديثك وأنت طفل لخجلت، لم يبق إلا اختيارك، هل اختيارك يمثلك؟ هل ما اخترت أن يكون تخصصك هو حقيقة رغبتك؟ في الغالب لا، ولذلك المبدعون هم من يسيطر عليهم تخصصهم من سن مبكرة حتى يكبروا، وهذا لا يعني أنك غير مبدع، لكن يعني أنك فقدت البوصلة.

يقول أحدهم (بحكم تخصصي)، ولم يبق في عقله من تخصصه إلا النزر اليسير، فإن كان ما تبقى إدارة أعمال فلم يبق من الإدارة إلا النظريات وإن كان علم نفس فلم يبق في رأسه إلا بعض المصطلحات التي رسخت في ذهنه فصار يلوكها وإن كان مهندسا فلم يبق منه إلا الإجراءات الهندسية وبعض مصطلحات المهنة، والعبرة في التخصص هو العمق، وليس العمق هو أن يعرف ما لا يعرفه الناس، لأن موظف الأرشيف يعرف طرق الأرشفة والتلاعب والحفظ والتمكين ما لا يعرفه مدير الدائرة، لكن التخصص العميق يعني التحديث المستمر للعلم وآخر ما توصلت له الأفكار العلمية في التخصص والتفاصيل الدقيقة التي يعرفها الممارس بحب للتخصص، بل والإبداع والأفكار الحديثة، كذلك التطوير.

ألم تر متخصصا في الكمبيوتر لم يدرس الكمبيوتر، وآخر يجيد التسويق والترويج للبضاعة لم يأخذ درسا أكاديميا واحدا في النظريات التسويقية ورغبات المستهلك، ألم تر ذلك الأكاديمي المتخصص الذي برع في التجارة أو في الإدارة وتخصصه لا يمت لتجارته بصلة، ألم تر شبابا وشيبا يعرفون سلوك النبات، وطرق رعايته المتقدمة دون أن يعرفوا أين تقع كليات الزراعة، وأولئك أصحاب مشاريع تربية الحيوان الذي أحب الحيوان فعرف طرق تربيته والتجارة فيه ولم يقرأ كتابا واحدا في الإبل والأبقار؟

بل بقي أن أقول لك أن تجد إداريا ناجحا لكنه يحب الزراعة، ومهندسا يحب النجارة، وشخصا عاديا مهووسا بالطب فهو يعرف الأدوية وتأثيراتها وأعراضها أكثر من بعض الأطباء بل يسبق الأطباء في التشخيص أحيانا بدون تحليل وأشعة، وثمة من يحمل مؤهلا ثانويا، لكنه مالي ناجح ومستثمر جيد، ومضارب متخصص، وعلى هذا فقس في باقي التخصصات، والخلاصة أن تخصصك الدراسي لا يعني تخصصك المهني في حياتك إلا بقدر اهتمامك وعمقك فيه، ذلك العمق المميز، لا العمق السطحي الكاذب، العمق الذي يجمع لك بين الخبرة والتخصص لا من يحيلك إلى تخصص آخر كتاب قرأته فيه قبل عشر سنوات أو يزيد، وتخصصك الدراسي هو ليس إلا جواز مرور للمهنة، أما باقي الأشياء فهي مقدار إبداعك فيها!

Halemalbaarrak@