محمد الأحمدي

وداع بلا موعد

الثلاثاء - 29 يونيو 2021

Tue - 29 Jun 2021

بنموذجين معرفيين نقيضين التقينا في المقبرة على غير موعد بعد أن ضللت طريقي فإذا بي بين القبور، في برهة أصبحت أسيرا لتأملاتي: كيف تحولت هذه المقبرة إلى ممر للعابرين على الرغم من أن قوانين المقابر في المملكة المتحدة تمنع ممارسة أنشطة المشي، أو ركوب الدراجات فيها، شرد ذهني في نظام التصنيف الذي اعتمدته الجهة المشرفة عليها؛ فضحايا الحرب العالمية الأولى والثانية مميزون عن غيرهم من الموتى لتبقى هذه القبور شاهدة على عصر الحروب العالمية، وزاد شرودي عند استحضار نموذجي المعرفي الإسلامي في البحث عن جهة القبلة لأرى على أي جهة تكون تلك القبور، فوجدتها تتجه نحو الجنوب الشرقي - جهة القبلة - ولكن لم يطل استنتاجي حتى تذكرت بأن الحربين كانتا في ذات الجهة من العالم فلربما تشير بأي حال من الأحوال إلى أماكن الحرب، لا للدلالة التي يحملها نموذجي الإسلامي في اتجاه القبلة.

وما أن أفاق تفكيري وإلا وأثارته بالونات الهليوم التي توزعت على مجموعة من القبور، فاستطلعت الأمر فإذا بها إحياء لذكرى أعياد الميلاد لأؤلئك الموتى! فيا لله العجب، أي عيد ميلاد بعد الممات يكون؟!.

وما زلت أطوف نحو المخرج، وإذا برجل كأن الصمت بلغ به ما بلغ، وها هو يبحث عمن يتحدث معه، يجلس تحت شجرة زان ضخمة، فتوجهت إليه لعلي أكسر الصمت الذي ينتابه، ويفسر لي شيئا مما أثار استغرابي، بادرني بالحديث على غير طبيعة الإنجليز الذين عادة تكون حواراتهم ردة فعل، فألقى التحية وأعقبها بسؤال هل أتيت لزيارة أحد فأجبته بلا، ولكني دخلت بالخطأ لهذا المكان، ثم رددت عليه ذات السؤال؛ فبدأ يسرد قصة زوجته التي توفيت منذ ثلاث سنوات بسبب خطأ طبي أودى بحياتها بعد أن أوصلها للمستشفى على أن يعود لاصطحابها بعد العملية إلا أن حساسية البنسلين جعلته لا يشاهدها مرة أخرى، لتستكمل على الأقل متوسط العمر الذي كان يرجيه لها، وهنا ملاحظة تكررت على ثلاث مرات مع جيراني ومع هذا الرجل وهي عدم انتظارهم للمريض في المستشفى أثناء إجراء العملية، فكأنهم لا يرغبون في انتظار المريض عند غرف العمليات كما نفعل نحن أحيانا، بل يعودون إلى منازلهم إلى أن يتلقوا اتصالا من المستشفى حول الحالة.

على العموم، السيد يزور زوجته يوميا على حد قوله بعد الرابعة عصرا منذ سنوات، ويبدو أنه صادق فيما يقوله، فالاهتمام الذي رأيته بمحيط القبر المليء بصور الذكريات له ولها، والشجيرات والورود المحيطة بها، وعبوات المياه التي يسقي بها تلك النباتات العطرية يوحي بذلك.

تحدثنا ساعة ونصف، كنت مستمعا أكثر الوقت، فلا أتدخل إلا من أجل أن يبقى الحديث متصلا بيننا، يؤمن بأن الحياة والموت بمفهومها الشامل تدل على معجزة، وأن تغير فصول السنة عظمة إلهية، وأنه مؤمن بأنه سيلتقي بها في السماء، هذا الرجل الذي يعتصره الألم لفقد زوجته، ويزداد ألمه في أنه لم يستطع أن يسمع كلمات زوجته الأخيرة كأن لسان حاله يقول ما قاله بدر السياب، شاعر الألم العراقي حين قال: «وباق هو الموت أبقى وأخلد، من كل ما في الحياة، فيا قبرها أفتح ذراعيك إني لآت بلا ضجة دون آه».

الموت نهاية الحياة الدنيا، فهو وداع بلا عنوان، فلا المودع يعرف موعده فيودع أحبابه بأجمل وداع، ولا المودع قادر على معرفة اللقاء بأنه الأخير فيغتنمه مع محبوبه. تتألم النفس، وتدمع العين، لفقد أي حبيب فهذه فطرة إنسانية فطرها الله في نفوس البشر؛ لكن أكرمنا الله بالإسلام حيث بين لنا أن الدنيا دار فناء، والآخرة دار استقرار وبقاء، و«الموت ما هد إلا هيكل الطين». وأنه حاجز بين الأحياء والموتى، أو بين الميت والحياة الدنيا، ولكن هناك صلة يبينها حديث الأعمال الثلاثة للميت «صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له». ولذا أتت كلمة الحول في القرآن في موقفي الوفاة والطلاق للإشارة على الحاجز أو الحيلولة للتواصل، أو الانتقال من حال إلى حال عند أخذ الدلالة اللغوية وخصوصيات الاستعمال القرآني في الاعتبار على حسب رأي فاضل السامرائي.

alahmadim2010@