أحمد الهلالي

وأصور الماضي لنفسي وأسليها!

الثلاثاء - 15 يونيو 2021

Tue - 15 Jun 2021

يقول مشعان: كل أسبوع نضبط إيقاع أشواقنا للقاء الأسبوعي في الاستراحة، نجتمع بعد العصر حتى 12 صباحا، نحن 9 أصدقاء، تناغمنا فقررنا ألا يزيد عددنا عن هذا، لكن الشاب السبعيني مصلح بالغ في إلحاحه حتى وافقنا أن ينضم إلينا مدير شركة مرموقة يعمل فيها ابنه، وكان مثقفا عميق الرؤى، وبعد أن توثقت صلاته غمرنا بكرمه، فأقسم أن يتكفل هو بأسبوع، ونحن بالآخر، وظللنا على هذه الحال، حتى فاجأنا ليلة بخبر شرائه الاستراحة، ثم أقسم أن يتكفل بكل شيء ولا شيء علينا سوى الحضور، واختيار ما نشاء من الأطعمة والمشروبات ووسائل الترفيه، حين أنشأ مسبحا وحجرة للأجهزة الرياضية جوار مضمار الجري، كنا نذيب فيها ضغوط الحياة المتصاعدة.

ثلاث سنوات نتقلب في نعيم أبي جندل، لكن الأمور سارت إلى (الطريق المنحدرة)، فقد تقلصت سفرة المائدة، واختفت بعض الأصناف، ثم تقلصت المدة إلى أسبوعين شهريا بحجة انشغال صديقنا الكريم، ثم تقلصت إلى مرة كل شهر، وبعد عام تقلبت المواعيد واضطربت حتى فقد الاجتماع بهجته، فاتصل بنا صديقنا عارف للاجتماع عاجلا في الاستراحة، فحضرنا.

وضع عارف نظارة القراءة على أرنبة أنفه ونظر إلينا من فوقها، وظل يحرك عينينه على وجوهنا ولا يقول كلمة واحدة، ثم أخرج جواله ووجهه إلى السماعة المتحركة فحرك يديه كالمايسترو، فانبعث صوت فنان العرب (من بادي الوقت هذا طبع الايامي/ عذبات الأيام ما تمدي لياليها) ونحن نترنم مندهشين، وفجأة قطع الأغنية وشغل مقطوعة تقاسيم عود حزينة خافتة، ثم تنهد قائلا:

إخواني الكرام، لقد تقلبنا في نعيم أبي جندل مدة طويلة، لكنها سنة الأيام، فقد تغيرت أحوال الرجل، وتآكل دخله تدريجيا حتى رأيتم ما رأيتم من تقلصات في المائدة والمواعيد، فقد خفضت الشركة راتبه، وأخذت كثيرا من امتيازاته، وزاد غلاء الأسعار من ذلك التآكل حتى بات الرجل عاجزا عن الوفاء بالتزاماته، وبالكاد يفي بمتطلبات أسرته ومنزله وسياراته.

ضحك مصلح حتى بدت نواجذه، فقال: كل هذه الزحمة لتخبرنا بأن الرجل تأثر ماليا؟ أخبرني إذن ماذا أقول وراتبي التقاعدي 3740 ريالا، فرفع الدكتور جابر يده وبدأ تنظيره الممل عن تآكل الطبقة المتوسطة أمثال صديقنا، وخطورة تآكلها على المجتمع والاقتصاد، فقال له مصلح: أصلح الله حالك، المشكلة ليست في تآكل الطبقة، المشكلة في ازدحامنا نحن في العالم السفلي بالساقطين منها، هل تعلم بأنني حضرت اجتماعكم مشيا، فسيارتي بلا وقود، وابني الكبير استعار دراجتي الهوائية، وبطاقة مدى مرهونة عند البقال! فابحثوا لنا نحن المعدمون عن حلول أرجوكم، لا نريد مآدب، ولا استراحات، نريد أن نشعر باهتمامكم ولين الحياة. صمت الجميع، فخرج عارف صامتا، وتبعناه جميعا، وتفرقت بنا السبل إلى همومنا صامتين، ولم نلتق بعدها!

ahmad_helali@