زيد الفضيل

صنائع المعروف

السبت - 05 يونيو 2021

Sat - 05 Jun 2021

أشرت في مقالي السابق «أخلاق الملوك» إلى امتنان السياسي العراقي فائق الشيخ علي في برنامج «الصندوق الأسود» للمملكة العربية السعودية التي ساعدته على الانتقال إلى العاصمة البريطانية لندن، وأشير في هذا المقال إلى حديثه المستفيض عن الدور السعودي الكبير في استضافة آلاف اللاجئين العراقيين الهاربين من جبروت وظلم صدام حسين من بعد أحداث انتفاضة مارس 1991م بالعراق.

في لقائه المستمر مع الإعلامي الكويتي عمار تقي يسلط فائق الشيخ علي الضوء بشكل صريح على أحداث تلك المرحلة، ويبين كيف تجاوب معه الضباط السعوديون من أدنى رتبة إلى أعلاها، بل وكيف تجاوبت القيادة العليا برئاسة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد يرحمه الله مع قضيتهم، وكيف قام الأمير سلطان بن عبدالعزيز يرحمه الله بحكم توليه لوزارة الدفاع بتهيئة كل الإمكانات من أجل تحقيق راحة آلاف العراقيين النازحين إلى أرض المملكة. ولعمري فقد كان ذلك من المعروف الذي يقوم به أهل الفضل، ولا يعرف حقه وشكره سوى أهل الفضل، وتلك خصيصة عربية أصيلة أرجو ألا نفقدها في غمرة تفشي الفردية في صورتها الرأسمالية المتوحشة.

أعود إلى السياسي العراقي فائق الشيخ علي الذي ذكر في سرده التاريخي نماذج عدة لصنائع معروف متنوعة قام بها الإنسان السعودي بوجه خاص من أصغر رتبة إلى أعلاها، وكم أدهشني عمق تلك المواقف ابتداء من ذلك الملازم الذي كان أول من استقبل الوفود النازحة، وهو في مركزه الحدودي الصغير، فقام بواجبه العربي الذي يجب، حيث استقبل أولئك النازحين الخائفين الذين أنهكهم طول المسير، وقدم ما بحوزته لهم دون تردد أو استنكاف، مؤمنا في قرارة نفسه بأن قيادته ستفوقه عطاء ومعروفا، ووصولا إلى أعلى القيادة الميدانية التي تمثلت في الأمير خالد بن سلطان، وكان في حينه قائدا للقوات العربية المشتركة، الذي بادر إلى الترحيب بآلاف النازحين بوصفهم أهلا وإخوة وليسوا لاجئين، وأنهم كعراقيين كانوا سباقين إلى الخير، والأمر كذلك مع الأمير تركي الفيصل الذي كان يرأس في حينه الاستخبارات العامة بالمملكة، الذي أدهش العراقيين بحسب وصف فائق الشيخ علي بسمو خلقه وعظيم تواضعه، وحول ذلك يذكر موقفا لن يغادره وبقية الجموع الحاضرة من النازحين، إذ كان من المقرر أن يجتمع الأمير تركي بجموع كبيرة من العراقيين، وتم تجهيز الخيمة التي نصبت في الصحراء لهذا الغرض ببعض كراسي في المقدمة ليجلس عليها الأمير وبعض مرافقيه، فيما كان العراقيون جلوسا على الأرض، وحين دخل الأمير الخيمة بادر إلى الجلوس على الأرض أسوة بالمئات من العراقيين الذين جمعوا للاستماع إليه نيابة عن من وراءهم ممن فاق عددهم العشرين ألفا.

ذلك الموقف شد العراقيين وأخذ بتلابيب قلوبهم، فهذا الأمير ابن الفيصل وحفيد عبدالعزيز، جده ملك وأبوه ملك وأعمامه ملوك، ومع ذلك كان من البساطة إلى الدرجة التي تجعلك قريبا منه، تلك صورة ما عرفها العراقيون في ظل الاستبداد العسكري البعثي الذي أذل الناس وقتل كرامتهم منذ انتهاء حقبة الملكية وحتى سقوط نظام البعث بالعراق. فلله در الأمير تركي، وما أجمل نماذج صنائع المعروف في حياتنا.

على أن صنائع المعروف لا تتوقف وهو ما أرجو أن نعمل على ذكره ونشره ضمن محيطنا المجتمعي، ليتعلم الصغير ويتأكد الكبير بأن الدنيا لا تخلو من فضل ولا ينتهي الخير فيها. وحول ذلك أشير إلى موقف من مواقف صنائع المعروف كنت شاهدا عليه في هذه المرة، حيث رافقت الصديق زين أمين في رحلة خارجية، وكان الأستاذ أمين يشغل منصبا رفيعا في الخطوط السعودية قبل تقاعده، فرأيت حجم الاهتمام الذي أبداه عدد من موظفي الخطوط السعودية به وبنا بالمعية أيضا، وكان أحدهم السيد يوسف عطية مدير عام الصالة الأولى بمطار الملك عبدالعزيز، الذي رافقنا رفقة الموظف لمديره بكل أدب وثقة وفضل، واستفرغ الوقت في الحديث عن إنجازات صديقنا المتقاعد زين أمين بكل محبة وتقدير، وكل ذلك حادث وزين أمين متقاعد من الخطوط السعودية منذ عقد ويزيد من الزمان. أخذت أتفكر في هذا الموقف الذي حتما هو من صنائع المعروف، لأؤكد لنفسي بأن من يعمل خيرا يجز به، وأن الدنيا سلف ودين، وأنه لا يبقى سوى المعروف بين أهل الفضل، وصدق الله القائل في محكم كتابه «فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره* ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره».

zash113@