ياسر عمر سندي

العمود الفكري للإنسان

الأربعاء - 26 مايو 2021

Wed - 26 May 2021

كثيرا ما يقال «حاول أن تفكر خارج الصندوق» والتي تعتبر نصيحة نتلقاها تحديدا في سياق دورات التنمية البشرية أو توجيهات يتم بثها من المسؤولين في المنظمات لرفع قيمة الموظفين الإبداعية وتغيير أنماط التفكير الفردية والجمعية الخاصة والعامة وصولا لمنتجات معرفية متميزة وفريدة من نوعها تعود بالنفع للشخص نفسه والبيئة التي يعمل ضمن نطاقها.

البارادايم Paradigm والذي يعني باللاتينية «النموذج والإطار الفكري للعقل البشري»، وببساطة هو ذلك الصندوق المحكم من الذاكرة البعيدة والقريبة ومخزن الخبرات والإبداعات والمفاهيم والمهارات والتربية والتوليفة المختلطة من الثقافة المجتمعية التي تنعكس على الشخصية والتي تتكون فيما بعد لتصبح كالعمود الفكري للإنسان والذي يستند إليه وعليه في تفسيره وتعاملاته وفهمه وإدراكه للسلوكيات المطروحة في المواقف ومع الآخرين في الحياة.

أول من تحدث عن «البارادايم» هو المفكر والفيلسوف الأمريكي «توماس كوهن» في مطلع الستينات الميلادية من القرن الماضي في كتابه «بنية الثورات العلمية»، والذي ركز فيه على توضيح مفهوم البارادايم الذي يؤكد على أن الإنسان يرى العالم ويتأثر بالمواقف تبعا لثقافته وتجاربه السابقة. وقد لا يعكس البارادايم حقيقة الشيء الفعلية بل يعكس المعتقدات والرؤية الشخصية الدفينة وتفسيراتها تجاه الشيء، فالإنسان بطبعه يميل إلى إطلاق الأحكام على الأشياء بقبولها ورفضها دون معرفة سبب القبول أو الرفض والذي يعود أيضا لمكونات الأنماط الشخصية المختلفة لكل إنسان مثل النمط

الانفعالي أو الانعزالي أو الانبساطي أو المتسلط أو المتعجرف، ومن خلال ذلك تقوم هذه الآلية برسم الحدود الذهنية التي يسير داخلها الإنسان في تكوين البارادايم الخاص به وتدخل إلى عقله ليتثبت بارادايمه، وبالتالي يعود العقل ويؤثر على الحواس مرة أخرى بطرح السلوكيات سواء كانت لفظية أو فعلية أو إيمائية، لذلك يهتم الباحثون تحديدا في علم النفس بتنمية البارادايم الإيجابي الذي يساعد الشخص على رؤية الحياة دائما بمنظار توافقي موضوعي بعيدا عن الحياد والميل للآراء الشخصية المتوارثة والتشبث بها.

مثال على ذلك قد يتربى الإنسان في بيئة صاخبة يعتريها رفع الأصوات من الوالدين والإخوة وهذا بالتالي سيحدد نموذجه السلوكي بخبرة رفع الصوت في الحوارات مع الآخرين مما قد يؤثر سلبا في تقبل هذا السلوك تجاه الغير الذين يميلون إلى النمط الهادئ.

هذا النموذج الفكري لكل إنسان يعتبر كالبصمة الخاصة والتي تقسم كل شخصية بحسب البارادايم التربوي الخاص بها، وهنالك ثلاث تقسيمات رئيسة:

أولا: المبدعون الذين يفكرون خارج حدود صناديقهم الخاصة ويخرجون من البارادايم المحدد ذي الستة جوانب إلى البارادايم الجديد والرحب، ليغيروا أفكارهم بتقبل الآخرين وأفكارهم ومبادلتها بما يملكون من رؤى وتصورات، ويمتازون بأنهم عمليون مخترعون ومبتكرون يفيدون أنفسهم والبيئة من حولهم.

ثانيا: الرواد يتمتعون بالشخصية المرنة وحواراتهم جذابة وممتعة ويتقبلون الجديد ويحافظون على أفضل ما يوجد في بارادايمهم القديم من أفكار ومعتقدات ويدعمون الجديد ويشجعونه ويحتفظون بأصالة القديم للاستفادة من خبراته.

ثالثا: النمطيون هم على العكس تماما من المبدعين والرواد ويلاحظ عليهم الاحتفاظ بالبارادايم القديم المغلق فقط ويرفضون أي فكرة لا تتناسب مع معتقداتهم وأفكارهم السابقة ويشعرون بالارتياح معها لذلك هم تنظيريون أكثر ويفضلون النقاشات المطولة والعبثية حتى يثبتوا عدم نفعية الأفكار الجديدة.

والبارادايم يعتبر هالة وحالة تتكون من مسارين، الأول الفردي يتعلق بالشخص وأفكاره ومعتقداته التي تنامت خلال حياته وهو سهل التغيير من خلال المحاكاة والنمذجة ودورات التنمية، والمسار الثاني الجمعي ويسمى «الصندوق الذهني الاجتماعي» يختص بالجماعات وأنماطهم وعاداتهم الفكرية والعقائدية التي تراكمت لسنوات، وهذا البارادايم أصعب في التغيير ويحتاج إلى وقت أطول.

هذا الاختلاف النمطي للشخصية هو أيضا اختلاف فكري للبشرية وهو ظاهرة صحية يزيد مثل المرحلة العمرية لكن البارادايم ينتقل ويتوغل وينتشر ويؤثر إما سلبا أو إيجابا، فالذكي يساير المبدعين والرواد ليستقيم عموده الفكري ويعتدل ليمضي قدما ويعيش بسلام وانسجام.

@Yos123Omar