مشاهد من أيام تركيا الجريحة
الأحد - 24 يوليو 2016
Sun - 24 Jul 2016
كنت في طريقي لمشوار باتجاه مطار أتاتورك مساء جمعة يوم الانقلاب التركي. كان هناك زحام غير طبيعي وحركة سير شبه متوقفة، ولا أحد يعرف ما هو السبب؟ لاحظت كثرة أصوات الدوريات على غير المعتاد، ألغيت المشوار وعدت للفندق القريب من شارع الاستقلال وساحة تقسيم، بعدها خرجت للعشاء حوالي الساعة العاشرة مع أجواء لطيفة وهواء منعش وحركة كثيفة للسياح كالمعتاد.
في حوالي الساعة الحادية عشرة بدأت مواقع التواصل تتحدث عن إغلاق لجسر مضيق البوسفور، ثم انهار السد الإخباري وتدفق هائل للمعلومات وتسارع للحدث التركي التاريخي، بعدها حدث انقطاع لتويتر لبعض الوقت في إسطنبول، ومع تواجد الشرطة في ميدان تقسيم بدأت حركة السياح ترتبك، والجري بكل اتجاه عشوائي، والخوف ينتشر، وأخذت حركة هروب السياح تطورا متسارعا، كل واحد يريد العودة إلى فندقه، وتشاهد أثناء المشي بعض الأحذية في الأرض التي تركها أصحابها! حينها لم يكن أحد يعرف ماذا يحدث بالضبط بمن فيهم الأتراك، لكن ذاكرة سياح العالم حذرة جدا من أي صوت وترتبك بسرعة قبل أن تعرف السبب، فالإرهاب يظهر فجأة
بدون مقدمات ويحاصر خياراتهم السياحية في كل مكان من العالم.
خلال هذه الدقائق لمحاولة تفرق السياح وقلقهم وحيرتهم في الحركة، كان بعض الأتراك يستقبلون السياح في الشارع يطمئنونهم وأنه لا شيء مخيف، مع أن نظراتهم يبدو عليها القلق على وطنهم! وحتى بعض أصحاب المطاعم خرجوا لتطمين المارة ومن في المطعم لإكمال وجبتهم. ولأول مرة أشاهد الشخصية التركية بهذه النظرات الحزينة والقلقة.
في هذه اللحظات الانقلابية في المشهد ما بين قبل الساعة الـ 11 وبعدها.. كعابر سبيل في هذا المكان أعدت التأمل بمعان كثيرة في وعينا بالمجتمع والسياسة، وكلمات مثل الاستقرار.. لتحرك كل مخزونك الثقافي والفكري طول العمر بلحظات واقعية، تأملت كيف أن بعض المغامرات السياسية قد تدمر مستقبل بلد وتعيد حركة التاريخ إلى الوراء، أخذت أراقب قلق رجل الشارع التركي الذي يبحث عن رزقه ويعمل طوال اليوم، وكم سيكلفه مثل هذا الحدث كما كلف من قبلهم.
كثير من المفاهيم السياسية مهما كانت ناضجة في ذهننا زمننا طويلا، وكتبنا عنها الكثير برؤية تحاول أن تكون معتدلة، فإنها في لحظات مواجهة الخطر تظهر لنا بصورة أكثر دقة في محتواها وقيمتها. وأعدت التأمل بمواقع تواصلنا العربية، وعدم شعور الكثيرين بروح المسؤولية التاريخية عن كل حرف يكتبه، فيتوهم أن الكلمة مجرد لعبة الكترونية تجمع فيها النقاط الشخصية.
عدت للفندق مشيا وإذا بشاشات تلفزيونات لوبي الفندق تتصدر الخبر، ومختلف السياح يتابعون مع موظفي الفندق نفسه، كانت الأحداث تتكشف تدريجيا.. وتظهر التطورات المتسارعة، ثم عاد توتير للعمل، بالنسبة لي كمتابع سياسي قديم كان يمكن تصور الحالة التركية وتاريخها منذ نصف قرن، وحضور الجيش التركي فيها ومكانته، وقصص الانقلابات التي حدثت، لكن مفاجأة الحدث هذه المرة مختلفة كليا، وحتى هذه اللحظة بعد حوالي أسبوع تبدو الأمور أكثر تعقيدا وضخامة!
ويبدو لي أن صورة تركيا التي تشكلت بعد عام 2003، ونجاح تجربتها التنموية وتقدمها السياسي بدعم من أجواء ما بعد سبتمبر الأمريكية تعرضت لطعنة داخلية كبيرة ليست من النوع «الضربة التي لا تقتلني تقويني»، والمشكلة أكبر من أن تختزل بجهات أو اتهامات عشوائية، وما حدث يفسر كثيرا من تراجعات السياسة الخارجية التركية في الفترة الأخيرة، لتدارك حالة عدم رضا دول كبرى عنها.
فمع أنه خلال أيام عدة تواصلت أفراح الشارع التركي وامتلأت الساحات، فكل بضع ساعات تشاهد مواكب سيارات أو دراجات نارية رافعة العلم التركي بروح وطنية تغيب فيها صور شخصيات سياسية، إلا أن عمق الضربة وأثرها لم تفلح هذه التجمعات على إخفاء ألمهما.. وأنت تسمع أحيانا هتافات جماعية «يا الله.. بسم الله.. والله أكبر».
صحيح أن الشعب التركي بمختلف توجهاته، وأحزاب المعارضة أظهرت مواقف وطنية مسؤولة، لكن مهما كانت الحركة الشعبية في الشارع فإنها كقوة ليست مؤثرة مباشرة بالحدث بدون جزء كبير من الجيش. أهمية التحركات الشعبية هي في قيمتها الرمزية لتوفر غطاء أخلاقيا لقوة أي نظام في العالم.
لقد تحول الشأن التركي عربيا إلى منطقة اختناقات فكرية يتجاوز فيها الحد المقبول، وأصبح تناوله في كثير من الحالات لا يعتمد على معلومات موثقة ودقيقة، وإنما توجهها رغبات وأمنيات شخصية، مثل حادثة إسقاط الطائرة الروسية التي تبين أن لا علاقة لها بالبطولات.
فشل الانقلاب مؤقتا.. لكن الحالة التركية عمليا ما زال الجرح فيها مفتوحا على كل الاحتمالات، ويعتمد على كفاءة إدارة المرحلة، وإن كل ما حصلت عليه تركيا من ثقة دولية ومتانة اقتصادية أصبحت اليوم مهددة بمخاطر عديدة، والنظام الدولي في النهاية محكوم واقعيا «بولاية المتغلب» ويبدو أن إردوغان يواجه الآن حصيلة خلق أعداد هائلة من الخصومات سواء على مستوى الداخل أو الخارج، ويرى الكثير منهم أهمية أن يعود لسياسة ما قبل 2011 م، والأسلوب الذي ساعده على بناء ازدهار اقتصادي في بداية تجربته.
في حوالي الساعة الحادية عشرة بدأت مواقع التواصل تتحدث عن إغلاق لجسر مضيق البوسفور، ثم انهار السد الإخباري وتدفق هائل للمعلومات وتسارع للحدث التركي التاريخي، بعدها حدث انقطاع لتويتر لبعض الوقت في إسطنبول، ومع تواجد الشرطة في ميدان تقسيم بدأت حركة السياح ترتبك، والجري بكل اتجاه عشوائي، والخوف ينتشر، وأخذت حركة هروب السياح تطورا متسارعا، كل واحد يريد العودة إلى فندقه، وتشاهد أثناء المشي بعض الأحذية في الأرض التي تركها أصحابها! حينها لم يكن أحد يعرف ماذا يحدث بالضبط بمن فيهم الأتراك، لكن ذاكرة سياح العالم حذرة جدا من أي صوت وترتبك بسرعة قبل أن تعرف السبب، فالإرهاب يظهر فجأة
بدون مقدمات ويحاصر خياراتهم السياحية في كل مكان من العالم.
خلال هذه الدقائق لمحاولة تفرق السياح وقلقهم وحيرتهم في الحركة، كان بعض الأتراك يستقبلون السياح في الشارع يطمئنونهم وأنه لا شيء مخيف، مع أن نظراتهم يبدو عليها القلق على وطنهم! وحتى بعض أصحاب المطاعم خرجوا لتطمين المارة ومن في المطعم لإكمال وجبتهم. ولأول مرة أشاهد الشخصية التركية بهذه النظرات الحزينة والقلقة.
في هذه اللحظات الانقلابية في المشهد ما بين قبل الساعة الـ 11 وبعدها.. كعابر سبيل في هذا المكان أعدت التأمل بمعان كثيرة في وعينا بالمجتمع والسياسة، وكلمات مثل الاستقرار.. لتحرك كل مخزونك الثقافي والفكري طول العمر بلحظات واقعية، تأملت كيف أن بعض المغامرات السياسية قد تدمر مستقبل بلد وتعيد حركة التاريخ إلى الوراء، أخذت أراقب قلق رجل الشارع التركي الذي يبحث عن رزقه ويعمل طوال اليوم، وكم سيكلفه مثل هذا الحدث كما كلف من قبلهم.
كثير من المفاهيم السياسية مهما كانت ناضجة في ذهننا زمننا طويلا، وكتبنا عنها الكثير برؤية تحاول أن تكون معتدلة، فإنها في لحظات مواجهة الخطر تظهر لنا بصورة أكثر دقة في محتواها وقيمتها. وأعدت التأمل بمواقع تواصلنا العربية، وعدم شعور الكثيرين بروح المسؤولية التاريخية عن كل حرف يكتبه، فيتوهم أن الكلمة مجرد لعبة الكترونية تجمع فيها النقاط الشخصية.
عدت للفندق مشيا وإذا بشاشات تلفزيونات لوبي الفندق تتصدر الخبر، ومختلف السياح يتابعون مع موظفي الفندق نفسه، كانت الأحداث تتكشف تدريجيا.. وتظهر التطورات المتسارعة، ثم عاد توتير للعمل، بالنسبة لي كمتابع سياسي قديم كان يمكن تصور الحالة التركية وتاريخها منذ نصف قرن، وحضور الجيش التركي فيها ومكانته، وقصص الانقلابات التي حدثت، لكن مفاجأة الحدث هذه المرة مختلفة كليا، وحتى هذه اللحظة بعد حوالي أسبوع تبدو الأمور أكثر تعقيدا وضخامة!
ويبدو لي أن صورة تركيا التي تشكلت بعد عام 2003، ونجاح تجربتها التنموية وتقدمها السياسي بدعم من أجواء ما بعد سبتمبر الأمريكية تعرضت لطعنة داخلية كبيرة ليست من النوع «الضربة التي لا تقتلني تقويني»، والمشكلة أكبر من أن تختزل بجهات أو اتهامات عشوائية، وما حدث يفسر كثيرا من تراجعات السياسة الخارجية التركية في الفترة الأخيرة، لتدارك حالة عدم رضا دول كبرى عنها.
فمع أنه خلال أيام عدة تواصلت أفراح الشارع التركي وامتلأت الساحات، فكل بضع ساعات تشاهد مواكب سيارات أو دراجات نارية رافعة العلم التركي بروح وطنية تغيب فيها صور شخصيات سياسية، إلا أن عمق الضربة وأثرها لم تفلح هذه التجمعات على إخفاء ألمهما.. وأنت تسمع أحيانا هتافات جماعية «يا الله.. بسم الله.. والله أكبر».
صحيح أن الشعب التركي بمختلف توجهاته، وأحزاب المعارضة أظهرت مواقف وطنية مسؤولة، لكن مهما كانت الحركة الشعبية في الشارع فإنها كقوة ليست مؤثرة مباشرة بالحدث بدون جزء كبير من الجيش. أهمية التحركات الشعبية هي في قيمتها الرمزية لتوفر غطاء أخلاقيا لقوة أي نظام في العالم.
لقد تحول الشأن التركي عربيا إلى منطقة اختناقات فكرية يتجاوز فيها الحد المقبول، وأصبح تناوله في كثير من الحالات لا يعتمد على معلومات موثقة ودقيقة، وإنما توجهها رغبات وأمنيات شخصية، مثل حادثة إسقاط الطائرة الروسية التي تبين أن لا علاقة لها بالبطولات.
فشل الانقلاب مؤقتا.. لكن الحالة التركية عمليا ما زال الجرح فيها مفتوحا على كل الاحتمالات، ويعتمد على كفاءة إدارة المرحلة، وإن كل ما حصلت عليه تركيا من ثقة دولية ومتانة اقتصادية أصبحت اليوم مهددة بمخاطر عديدة، والنظام الدولي في النهاية محكوم واقعيا «بولاية المتغلب» ويبدو أن إردوغان يواجه الآن حصيلة خلق أعداد هائلة من الخصومات سواء على مستوى الداخل أو الخارج، ويرى الكثير منهم أهمية أن يعود لسياسة ما قبل 2011 م، والأسلوب الذي ساعده على بناء ازدهار اقتصادي في بداية تجربته.