فهد الحازمي

صعود ترمب وسقوط النخبة

الاحد - 24 يوليو 2016

Sun - 24 Jul 2016

أعود للحديث عن الملياردير الأمريكي المثير للجدل دونالد ترمب مرة أخرى. فقد أقر الحزب الجمهوري في مؤتمره الوطني ترشيح ترمب لخوض انتخابات الرئاسة ممثلا للحزب الجمهوري في نوفمبر المقبل بعد أن حصل على تصويت غالبية مندوبي الولايات والأقاليم بشكل لم يسبق له مثيل.

قبل عام فقط كان ترمب محط السخرية من النخب السياسية والثقافية والاقتصادية بالرغم من ثروته المليارية الهائلة. بالطبع لن أحكي تاريخ ترمب هنا ولكن المثير للتساؤل والتفكير هو كيف صعد نجم دونالد ترمب في المشهد السياسي وسط استحقار الجميع به وبجمهوره؟

الحقائق لا تكذب ولكن قدرتنا على رؤيتها وفهمها محدودة للغاية. في الغالب لا نرى في العالم الخارجي بتعقيداته إلا ما يوافق تصوراتنا المسبقة عنه وليس كما هو بالفعل. في نفس الوقت لا نستطيع أن نستوعب الطرق الأخرى التي يمكن بها فهم وتفسير الظواهر من حولنا. هذا ما يمكن أن نطلق عليه العمى الحقيقي، فالعمى لا يقتصر فقط على عمى البصر ولكنه أيضا عمى البصيرة. وهي نكبة «نخبوية» حقيقية، إذا جهل «النخب» الطريقة التي يفكر بها سواهم ومن ثم يعتقدون أنهم هم فقط لديهم المقدرة على رؤية الأشياء كما هي وإصدار الأحكام عليها.

لعل دونالد ترمب يفهم جيدا هراء النخبوي وبعده عن رجل الشارع حيث كان بارعا في مخاطبة الجماهير ليتساءل الجميع لماذا يحوز خطاب عنصري رجعي كخطاب دونالد ترمب على كل هذه الشعبية الجارفة؟

في الحقيقة هناك مشكلة أعمق لم يفكروا بها من قبل وهي ما إن كانت أدواتهم الفكرية ومناظيرهم التحليلية تمثل المجتمع والعالم الخارجي إجمالا بشكل واقعي؟ أو بعبارة أخرى ما إن كان باستطاعتهم رؤية تصاعد التأييد لظاهرة دونالد ترمب قبل أن يصبح مرشحا رئاسيا رسميا للحزب الجمهوري؟

لم تخطئ الحقائق والبيانات يوما بخصوص صعود نجم ترمب. فقد كان حضوره مشهودا في الاستفتاءات التي أجريت من بداية المراحل التمهيدية للانتخابات. شعبية ترمب تزيد طردا مع ازدياد التغطية الإعلامية لتصريحاته المجنونة فقد حظي ترمب بأعلى حصة من التغطية الإعلامية مقارنة بمنافسيه -والتي في غالبها ساخرة وسلبية حتى من أشد القنوات محافظة ويمينية-. السر البسيط يكمن فيما أسلفت الحديث عنه وهو أننا لا نحب أن نرى إلا ما يوافق توقعاتنا وآراءنا وهذا التحيز المعرفي يتسلل حتى إلى طريقة قراءتنا للأحداث والأرقام المحايدة.

نعم، الحقائق لا تكذب ولكن قراءتنا لها قد تكون خاطئة وقاصرة، فنظامنا الإدراكي ليس مصمما لكي نرى العالم كما هو. فبالتالي ليس من المنطقي أن نفترض أننا نرى العالم بكل حياد وموضوعية وإنما من خلال فلاتر إدراكية عديدة تجعل رؤيتنا وتفسيراتنا لما يحصل حولنا محدودة. السبيل الأمثل للتعامل مع هذا الأمر يكمن في ثلاث نقاط: الأول الجاهزية للاستماع والإنصات لما لا يتفق مع تصوراتنا إذ إننا لسنا الوحيدين الذين لديهم آراء عن المجتمع والسياسة وغيرها من مجالات الحياة.

النقطة الثانية في البحث الفعال عن أولئك الذين لا يتفقون معنا والحديث معهم. فالجاهزية للإنصات بحد ذاتها لا تكفي حين تحيط نفسك بمن يتفقون معك فحسب.

أما النقطة الثالثة والأخيرة فتكمن في البحث عن مصادر علمية أو إحصائية قدر الإمكان عن أي موضوع تتناوله. الحديث المسترسل عن مسائل يمكن إيجاد إحصاءاتها وحساباتها ليس سوى مضيعة وقت، كما أن تفسيرها يجب أن يكون ملائما. قد لا يفوز ترمب بالرئاسة الأمريكية -إن صدقت تنبؤات الإحصائيين- لكنه قطعا غيّر وجه الدعاية الانتخابية للأبد. وللحديث بقية.